هل قامت الجهات المعنية بعمل إحصاء عن متوسط الأعداد التي يكون عليها من يبلغون السبعين في جامعاتنا، وكم يكلفون خزانة الدولة؟ لا يكاد يمر يوم إلا وتطرق اسماعنا كلمات وجمل، عبر تصريحات، لهذا أو ذاك من أهل الحكم في مصر، تشير الينا بأن هؤلاء الناس ينظرون الينا وكأننا مجموعة من الجهلة المغفلين الذين يمكن الضحك عليهم بحديث جزء غير قليل منه يجافي حقائق الاشياء، بل وقد يجافي المنطق السليم، ولهم العذر في ذلك، فنحن نري ونسمع ونشاهد الأعاجيب من أهل الحكم، ونكاد - كمصريين - نفهم كل صغيرة وكبيرة، مما يتصورون انهم يخفونه علينا، لكننا - كالعادة - نقف مكتوفي اليدين، نكتفي بمصمصة الشفاه، وغاية المراد من صور الاحتجاج ان نؤلف نكتة تسخر من هذا الذي يتصور انه يخدعنا، وفي الفترة الاخيرة، تفضل اهل الحكم فتركوا هامشا من حرية التعبير التي لا تسمن ولاتغني من جوع، وكل ما تؤدي اليه هو التنفيس عما يجيش بصدر الكاتب، حتي لا "يطق" ويصاب بانفجار في المخ أو سكتة قلبية لا قدر الله. ونستعرض اليوم آراء الاستاذ الدكتور احمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب للعام الثامن عشر، ووزير التعليم الاسبق، ونائب رئيس جامعة القاهرة الاسبق ايضا. فأثناء عرض التعديل المعيب للنص الخاص بمن يبلغون سن السبعين من اساتذة الجامعات، علي مجلس الشعب، في محاولة لمحو الآثار المدمرة لما قام به الدكتور مفيد شهاب عام 2000 عارض البعض نصا كارثيا يقول بجواز تعيين هذه الفئة من الاساتذة، وكأن من رأي هؤلاء ان يكون التعيين وجوبيا لا "جوازا". وربما تواجهنا شبهة أننا من ذوي المصلحة في هذه المناقشة، لكن ذلك شرف لا ندعيه وتهمة لا ننكرها، وعلي أية حال فقد هاجمنا قانون مفيد شهاب وقت صدوره اكثر من مرة، ولم يكن القانون مما يطالنا في ذلك الوقت. كان رئيس المجلس مؤيدا لصيغة ، مدعما رأيه بألا أحد مخلد في التدريس، وان من حق الجامعة ان توافق أو لا توافق حسب حاجتها، وان هذا هو المنطق الصحيح! ظاهر الكلام انه "منطقي" فجهة العمل لها ان تحدد احتياجاتها ولا تعرض عليها، وان الدوام هو لله تعالي وحده، ومع منطقية هذا التبرير، إلا ان آخر من يحق لهم التلفظ به هم بعض أهل الحكم في مصر، ذلك انه قد اشتهر بقيام هذا النظام علي الاستمرار علي مقاعد الحكم، وندرة التغيير، اعتمادا علي قاعدته المعروفة "اللي تعرفه احسن من اللي متعرفوش". ولا اظن ان رئيس مجلسنا تغيب عنه تلك الحقيقة المعترف بها وهي ان العطاء المعرفي والعلمي ليس له حدود عمرية معينة، الا اذا حدث لا قدر الله ما يعوق الانسان، صاحب العطاء من امراض وانما يحدث العكس، حيث يزداد العالم تألقا وخبرة ونضجا وحكمة، الا ما ندر، وهو امر يختلف عما يحدث بالنسبة لتحمل المسئوليات التنفيذية والادارية، فكيف يجيز النظام القائم استمرار البعض عشرات السنين ممن تجاوزوا السبعين من العمر في تولي مسئوليات تنفيذية واشرافية جسيمة، ويحرمون كبار اساتذة الجامعات من استمرار العطاء المعرفي. وعلي هذا فمن المفروض ان يتذكر اهل الحكم في مصر، وهم يدافعون عن النص المعيب تلك الحكمة الشهيرة بألا نقذف الغير بالحجارة اذا كان بيتنا من زجاج، اننا نذكر في مجالي الادب والفن، علي سبيل المثال، قمما مصرية رائعة، مثل نجيب محفوظ، ومحمد عبدالوهاب ويوسف وهبي ممن تجاوزوا الثمانين، ومع ذلك استمر عطاؤهم الفني والادبي، في تألقه وعظمته، وهناك غيرهم بطبيعة الحال. وفي مجالنا الجامعي نري قمماً أخري، تجاوز اصحابها الثمانين، واستمروا يواصلون العطاء بكل أريحية وبكل تألق والحمد لله، مثلما رأينا لدي الراحل الدكتور سليمان حزين، وأمد الله في عمره الدكتور محمود حافظ استاذ الحشرات بكلية العلوم ورئيس مجمع اللغة العربية الذي تجاوز عمره التسعين وغيرهما. ولاشك ايضا ان رئيس مجلسنا الموقر يعلم علم القين ان استاذ الجامعة لا يقوم فقط بالتدريس، بحيث نقول انه سوف يعجز بعد السعبين عن القيام بمثل هذه المهمة، وانما هو يقوم بالبحث العلمي، وهذا شأن لا يتوقف وهو يرشد ويشرف ويوجه، مما لا حدَّ زمنيا له الا في حالات المرض. وحتي بالنسبة للتدريس، فهو لا يقف عادة ليدرس لآلاف أو حتي مئات وانما هو يدرس لطلاب الدراسات العليا ممن قد لا يزيد عددهم عن اصابع اليدين، فيتحول التدريس الي حوار وبحث يبث مزيدا من الصحة والعافية لدي القائم به. كان استاذنا رحمه الله الدكتور عبدالعزيز السيد، أول وزير للتعليم العالي في مصر، منتدبا لسيمنار قسم اصول التربية بتربية عين شمس وقت ان كنت اتولي رئاسته في اوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وكانت صحته قد بدأت تتراجع بشكل ملحوظ الي درجة بدأت تمس شيئا من هيبته وجلاله، فسعيت مرة ان اكلمه، وباستحياء شديد، ان يحافظ علي البقية الباقية من صحته، واننا مستعدون، من حين لآخر ان نزوره بمنزله نستفيد من علمه وحكمته، دون ان يتكلف مشقة الحضور الي الكلية، فاذا به يرد علي بما ألجمني حقا: يا سعيد دا ده الوقت اللي باشعر فيه اني لسه حي أرزق، وان لسه ليه قيمة. ان نص "التجويز" اذا كان مبدأ صحيحا منطقيا، لكن، في النظم المحترمة القائمة علي الموضوعية، اما النظم القائمة علي الاستبداد والقهر وتحكيم العلاقات القرابية والشخصية والتقارير الامنية المغلوطة فسوف ننظر اليه علي انه قولة حق يراد بها باطل، حيث ليس مستبعدا علي مثل نظامنا الحالي ان يتخذها فرصة ليستبعد اصحاب نهج المغايرة مهما عظم عطاؤهم العلمي، ويبقي علي اصحاب نهج المسايرة مهما تدني عطاؤهم. وفضلا عن ذلك فهناك قدر من الاذلال ليس غريبا علي نظام يقوم علي اخلاق العبيد فيكون مطلوبا من كبار الاساتذة ان يكتب كل منهم طلبا يرجو تعيينه استاذا غير متفرغ ويقدمه الي تلميذه رئيس القسم ليحكم تلاميذه اعضاء القسم ان كانوا يقبلون ام لا؟! يقول سرور ان الاستاذ الذي يتنكر له تلاميذه لابد انه لم يستطع ان يعلمهم جيدا لكننا نذكره بالمثل الشعبي الشهير "يخلق من ضهر العالم فاسد" دون ان نعني المعني المباشر فكم من مصلحين خلفوا واحدا او اكثر ممن لم يسر علي الطريق، والجميع يعرفون كم اصبح التنكر وندرة الوفاء ظاهرة اجتماعية مؤسفة. روي صديق ان تلميذه رئيس القسم ارسل له بضرورة ان يكتب طلبا يطلب فيه تعيينه استاذا غير متفرغ صحيح ان رئيس القسم هذا كان خلوقا لكن صاحبنا الاستاذ لم تسمح له كرامته ان يكتب مثل هذا الطلب وحجته ان القسم او الكلية اذا كانت بحاجة اليه فلتطلب هي منه ان يوافق علي الاستمرار في العمل ذلك انه اذا رفض- وهذا احتمال نادر- فلن تهدر كرامة الكلية لكنه اذا تقدم بطلب ورفض فسوف تهدر كرامته. وذكر صاحبنا بعض من التقي بهم انه عندما كان رئيسا للقسم وعاد استاذ له من الخارج بعد فترة انقطاع طويلة فصل خلالها من الكلية والجامعة سارع من نفسه بكتابة طلب باسم هذا الاستاذ العائد بالعودة الي العمل بالقسم دون ان يكلفه عناء نفسيا بعمل هذا وبعد ان تم الامر اخطره مبديا اسفه ان لم يستأذنه سلفا! صحيح ان التعديل الجديد قد زاد مرتب هذه الفئة من الاساتذة لكن من قال ان الجنيهات علي قدر احتياج الانسان اليها، هي ما يرضي كبار الاساتذة؟ انهم يكونون في هذه المرحلة من العمر والعطاء بحاجة اكثر الي "التقدير" والاجلال والاحترام. وهم بحكم القانون لا ينافسون احدا علي موقع اداري حيث يحرم توليه علي من تجاوز الستين من العمر فما الخوف اذن من ان يكون وجودهم حتميا؟ تري، هل قامت الجهات المعنية بعمل احصاء عن متوسط الاعداد التي يكون عليها من يبلغون السبعين في جامعاتنا، وكم يكلفون خزانة الدولة؟ ان عددهم لن يتجاوز بضع مئات وما يكلفونه من خزانة الدولة لا يذكر امام فرق سعر الاف الافدنة او الامتار من الاراضي التي تمنح لهذا او ذاك من الاصدقاء او الاقارب او الراشدين عندما يعيد بيعها مرة اخري او يستثمرها ليجني منها مئات الملايين واحيانا تصل الي مليارات! لكنها فلسفة نظام يتعامل مع خيرة ابنائه كما يتعامل مع سائر المواطنين وكأنهم عبيد احسانه شعاره: لا تشتر العبد الا والعصا معه.