لك ان تتصور ذلك الدرك الاسفل للإنحطاط الذي وصل اليه الامر حتي يجلس رجال _وامرأة- علي اعلي سلم السلطة في دائرة الرئاسة وصنع القرار للإمبراطورية الاقوي في العالم وفي التاريخ لمناقشة تفاصيل وسائل وادوات تعذيب المقبوض عليه! ينبغي عدم الخلط بين صدام الحضارات وصراع الاصوليات، فمثلما لا يعبر بن لادن عن عموم المسلمين فأن بوش لا يمثل المسيحية والغرب. بعد خمس سنوات علي الاحتلال الامريكي.. هل للعراق مستقبل؟ لكي نجيب علي هذا السؤال الصعب لابد ان نضع اصابعنا اولا علي طبيعة الصراع القائم اليوم علي ارض العراق والمنطقة المحيطة، وادوار المتصارعين واهدافهم وقدراتهم . صدام الحضارات التي بشرنا به صامويل هاننجتون في كتابه الشهير بهذا الاسم (The Clash of Civilizations) لا يتحقق اليوم في شكل صراع بين الثقافة الاسلامية والثقافة الامريكية _ والثقافة هنا بمعني اسلوب فكر وحياة _ كما يروج البعض اليوم فهذا الصراع الذي اشعلته "غزوة منهاتن" حسب ادبيات الاصوليين اتباع بن لادن، من ناحية، وكرسته بعد ذلك عملية غزو واحتلال العراق التي ادارها الاصوليون العسكريون _المحافظون الجدد- انصار الليكود- في الادارة الامريكية وانضمت لها اطراف اخري تحت صبغات دينية شيعية وسنية في جانب وصهيو-مسيحية في الجانب الآخر، هذا الصراع ليس صراع حضارات علي الاطلاق فالذين قاموا بغزوة منهاتن لا يمثلون الحضارة الاسلامية في شيء وان ادعوا ذلك وتوهموه، فكيف يمكن لهكذا حضارة بما وراءها من تاريخ وتراث وما تضمه من تنوع وثراء بشري حميم يزيد علي المليار من البشر ان يكون ممثلهم هو تحالف طالباني وهابي سلفي يقيم اصحابه _ فكرا و فعلا _ في الكهوف... من اختار هؤلاء ومن صوت لهم؟ والذين قاموا بغزو واحتلال العراق لا يمثلون الحضارة الامريكية ولا الغربية. فأكثر من ثلثي الامريكيين ضد هذه الحرب كما ان كافة الشعوب الاوربية بميراثها الحضاري الباهر كانت وماتوال ضد الحرب وخرجت ملايينها للشوارع عدة مرات في كافة العواصمالغربية تعلن رفضها لها. الصدام الحالي اذن ليس صدام حضارات وانما هو صراع اصوليات. ان كافة مظاهر واساليب وافكار وادبيات الصراع الراهن تفضح افكار واساليب الاصوليين المتشددين علي الجانبين افتضاحا كاملا. ليس في مظاهر الصراع هذه اية ملامح لصراع حضاري بين حضارات.. وبها كل ملامح وقسمات الانفلات والانفعالات الاصولية فكرا وفعلا بكل ما تتسم به هذه من صلف وحماقة وحقد وسذاجة وانفصال عن الواقع ووحشية ودموية غير مبررة. سواء تواجدت هذه في كهوف افغانستان او في الغرف المكيفة الهواء للمحافظين الجدد في واشنطن. لقد صدرت في الولاياتالمتحدة في السنوات القليلة التالية لغزو العراق عشرات الكتب التي تفضح لنا الفكر المذهل الذي كان وراء قرار الغزو والقرارات التالية له في ادارة الحرب والاحتلال. وهو فكر مذهل ليس في ذكائه ولكن في مدي حماقته وجهله وسذاجته الصبيانية الممتزجة بقدر مماثل من الحقد والعنصرية والاستهتار بالانسان وبالانسانية. كما تتسرب إلي العلن بين وقت واخر وثيقة تفضح جانبا او اخر من جوانب ذلك الفكر اللذي كان متداولا في اروقة صنع القرار وفبركة الاخبار. واحدث ما تسرب في هذا المجال هي فضيحة الاجتماعات التي عقدت علي اعلي مستويات لمناقشة وسائل التعذيب التي يستخدمها المحققون الامريكيون مع من يقبضون عليهم. وينادي البعض اليوم بتقديم المسئولين عن هذا إلي المحاكمة لارتكابهم جرائم ضد الانسانية.. واحد هذه الاجتماعات كان برئاسة كونداليزا رايس وضم رئيس المخابرات المركزية جورج تينانت والمدعي العام جون آشكروفت وغيرهم وتم الاجتماع في البيت الابيض وراح المجتمعون يناقشون بتفصيل غريب ما يجب ان تكون عليه وسائل التعذيب للمسجونين وما يمكن ولا يمكن فعله وشعر واحد فقط من المجتمعين بخطورة وعبثية الموضوع وهو جون اشكروف الذي قال لهم: "لماذا نناقش هذا الامر في البيت الابيض؟ ان التاريخ لن يرحم عملنا هذا"! ولك ان تتصور ذلك الدرك الاسفل للإنحطاط الذي وصل اليه الامر حتي يجلس رجال _وامرأة- علي اعلي سلم السلطة في دائرة الرئاسة وصنع القرار للإمبراطورية الاقوي في العالم وفي التاريخ لمناقشة تفاصيل وسائل وادوات تعذيب المقبوض عليه! ولكن هذا هو الذي فعلته ثلة المحافظين الجدد التي نظرت وخططت ونفذت الحرب العبثية المأساوية ضد العراق وقد يصعب ان نصدق ان حفنة من الرجال لا يزيدون علي اصابع اليدين عددا _لم يخدم معظمهم في اية حرب او حتي معركة او مناوشة صغيرة- بما في ذلك الرئيس بوش نفسه ونائبه ديك تشيني _قد استطاعوا تحويل السفينة العسكرية الامريكية للإمبراطورية الهائلة عن موقعها المدافع عن امن ومصالح الشعب الامريكي الحقيقية وتوجيهها نحو تحقيق اوهام ومغامرات بالغة الطيش والرعونة متوهمة القدرة علي زرع الديمقراطية في اراض صخرية بطرياركية (ابوية) قبلية لها مناخها الخاص المختلف وتحلم احلام المراهقة الفكرية بتغيير العالم واعادة تشكيل الشرق الاوسط وتأهيل وتربية شعوبه وباعادة خلقها علي صورتها ومثالها هي. ولكن الواقع المذهل لكل ما احاط بغزو العراق وما جري به بعد ذلك هو واقع اشد غرابة وغلوا من اي خيال. احدث من ظهر علي السطح من هذه العصبة هو دوجلاس فايث، الذي كان مساعدا لنائب وزير الدفاع بول وولفوفيتش. وقد اصدر فايث كتابا مؤخرا بعنوان "الحرب والقرار"- War and De cision يسجل فيه من وجهة نظره الاحداث واسلوب التفكير والتبرير الذي كان متداولا في البنتاجون وادي في النهاية إلي قرار شن الحرب. وقد ظهر فايث في البرنامج التلفزيوني الشهير "ستون دقيقة" في ابريل 2008 ليروج لكتابه. ولكن الغباء العاطفي ليس سوي احد خصال هذه العصبة اما الخصال الاخري فأهمها الكذب والاحتيال بقلب بارد وعين لا تطرف، وهكذا رأينا كيف فبرك هؤلاء اكاذيب اسلحة الدمار الشامل وعلاقة صدام بالقاعدة واحداث سبتمبر وانابيب اليورانيوم المخصب وعددا اخر من الاكاذيب التي كانوا قد اطلعوا علي ما يثبت بطلانها لكنهم استمروا في غيهم لتحقيق هدف ضرب وتحطيم العراق وازالته من علي الخريطة والاستيلاء علي نفطه وتقديم هذا كله كنموذج لما يمكنهم فعله بالمنطقة التي اعتبروها حقا مشروعا لهم. ورأي هؤلاء في القوة المسلحة وحدها اعلي المبررات والشكل الامثل للحق والعدل والمشروعية فرغم اعتراض شعوب العالم كله تقريبا قرروا المضي قدما مانحين انفسهم ماهو اعلي من المشروعية العالمية والاسانيد الدولية وراحوا يظهرون استهتارا واحتقارا هائلا لهذه كلها فألقوا بمن وجدوهم امامهم في معسكرات جوانتانمو دون محاكمة ودون الالتزام لا بالقانون القضائي الامريكي ولا بمعاهدة جنيف، مخترعين لهم قانونهم الخاص الذي هو في الواقع قانون الغاب وحدها. ان اسلوب تفكير هؤلاء وخطابهم ولغتهم وشعاراتهم ونمط منطقهم وغيهم واصرارهم المذهل علي صواب موقفهم حتي بعد اتضاح الاكاذيب وافتضاح المؤامرات_ فما زال دوجلاس فايث يؤكد انهم كانوا علي حق في غزو العراق حتي ان محاوره في برنامج 60 دقيقة لم يتمالك نفسه من الاندهاش الشديد _اسلوبهم هذا هو بعينه اسلوب الاصوليين.. والاصولية هي اساس فكر المحافظين الجدد منذ راعيهم الاول ارفنج كريستل الذي نشر مقالا عام 1979 بعنوان "اعترافات محافظ جديد" وزميله نورمان بودهرتز محرر مجلة "كومنتري" - لسان حال الجالية اليهودية الامريكية لمدة خمسة وثلاثين عاما، واليوم ماتزال "كومنتري" و"الويكلي ستاندارد" اهم مجلات المحافظين الجدد، بينما يترعرع فكرهم في اروقة مؤسسات خاصة لها تأثير هام في دوائر صنع القرارا ومنها امريكان انتربرايز انستيتيوت AEI . وفي بداية عهد بوش اتهمه المحافظون الجدد بأنه ليس مناصرا لاسرائيل بالقدر الكافي فأطلق بعدها علي شارون لقب "رجل السلام"! ليس غريبا علي اصولية المحافظين الجدد ان تكون هي البادئة بالنظر إلي العراقيين علي اساس طائفي بحت فكانوا يتحدثون دائما بخطاب طائفي وعرقي لا يلهج سوي بالفاظ الشيعة والسنة والاكراد ومنحوا رئاسة العراق للأكراد ورئاسة الوزراء للشيعة فيما قاموا بقرارات الحل والاجتثاث الفادحة التي قاموا فيها بحل الجيش والشرطة واجتثاث البعث وطرد معظم الموظفين والاداريين من مناصبهم لنزع كل مكونات الدولة والنظام والامن من العراق والعراقيين وفي هذا يتضح المزيج المدهش من الغباء والعنصرية والحماقة والحقد المتمثلة جميعها في هذه القرارات الطائشة. فحتي النازية بعد غزوها لفرنسا واحتلالها لباريس لم تقم باجتثاث كافة مؤسسات الدولة وموظفيها بل اعتمدت عليها في محاولة تسيير ادارتها للبلاد. ويتضح من هذا كيف ان هذه القرارات الخطيرة لا يمكن ان تصدر عن عقلية عسكرية منتظمة ومدربة وواعية وانما فقط عن عقلية اصولية منغلقة علي ذاتها وفكرها مهووسة باوهامها الصبيانية الهوجاء وحقدها وعنصريتها التاريخية ضد الآخر المختلف عنها حضاريا وعرقيا ودينيا. حينما دخل الانجليز مصر حاولوا سياسة فرق تسد ولكن المصريين بزعامة سعد زغلول تصدوا لها وتلاحم الاقباط والمسلمون في مقاومة المحتل ولذلك لم تحدث فتنة ولم تنقسم مصر علي نفسها. لقد تخلصت مصر في النهاية من الاحتلال لانها لم تسقط في مستنقع الاصولية وواجهت الانجليز بفكر حديث وعقل منفتح وتلاحم شعبي يعلو فوق الطائفية. ولن يكون للعراق مستقبل الا اذا اتبع نفس النهج.