هل يمكن للدراما، بشتي أنواعها،إذاعية كانت أو تليفزيونية أو سينمائية أو حتي وثائقية، أن تسهم في عملية تدوين التاريخ أو أن تكون أحد المصادر أو الروافد التي يستقي منها المرء المعرفة بتاريخه وتاريخ العالم من حوله؟ أو هل يجوز للدراما أن تضطلع بمهمة تصحيح بعض الأخطاء التي قد ترد عند كتابة التاريخ وتدوين مجرياته من منظور جديد؟ أو بصيغة أخري، هل من حق الدراما أن تكون واحدا من ضمن المراصد أو الجهات المنوط بها تدوين التاريخ أو أن تقوم بإعادة كتابة التاريخ، إذا تراءي لصناعها ما يستدعي ذلك؟! تساؤلات عديدة أحسبها مهمة وتستجدي حوارا وجدلا مستفيضين، رغم أنها وإن كانت تطرح نفسها منذ أن انضمت الدراما إلي قائمة الفنون التي عرفها الإنسان في سياق بحثه المستمر والدءوب عن الحقيقة، إلا أنها تنبلج هذه الأيام أو يعاد طرحها من رحم الجدل الصاخب حول أعمال درامية تليفزيونية إختارت أن تتجشم عناء معالجة وتناول وقائع وسير ذاتية وتغطي فترات تاريخية مهمة،لعل من أبرزها وأحدثها عرضا مسلسل "الملك فاروق"، الذي عرض علي الشاشة الصغيرة طيلة شهر رمضان الفائت. ولم يكن المثير للجدل والتساؤل من وجهة نظري حول هذا العمل الدرامي هو تصدي شاب سوري لتجسيد شخصية الملك فاروق،خصوصا بعد أن رفض عدد من نجوم التمثيل في مصر القيام بهذا الدور، أو حتي تولي مخرج سوري لعملية إخراجه علي نحو يغذي هواجس بعض المصريين حيال ما يسمي بالغزو السوري للدراما المصرية، ولا حتي اختيارالمخرج لخبراء ماكياج إيرانيين للعمل بالمسلسل ورفض السلطات المصرية السماح لهم بدخول مصر، وإنما كان الأمر الأكثر إثارة للاهتمام في ظني هو تعمد بعض النقاد والمشاهدين تقويم هذا العمل الدرامي الهام من وجهة نظر علمية وتاريخية وكأنهم أمام رسالة علمية لنيل درجة الماجيستير أو الدكتوراة في التاريخ الحديث عن الملك فاروق أو بصدد كتاب ألفه أحد الكتاب أو الباحثين عن الملك المثير للجدل. كما يسترعي الانتباه أيضا تلك التصريحات التي تباري صناع هذا العمل الدرامي في إطلاقها منذ التحضير له وقبل عرضه علي شاشة التلفاز بشأن علاقة المسلسل بالواقع التاريخي إبان الفترة الزمنية التي غطاها المسلسل والممتدة من الحرب العالمية الثانية حتي تحرك الضباط الأحرار باتجاه ثورة يوليو من عام 1952، والتي راجعها تاريخيا المؤرخ المصري يونان لبيب رزق، لنجد أنفسنا في نهاية المطاف بصدد حقيقة واضحة تتمثل في إشكالية العلاقة بين الدراما والتاريخ. لقد أكدت الدكتورة لميس جابر، مؤلفة المسلسل والتي بدأت بجمع المعلومات عن الملك فاروق منذ 15 عاماً، أن التاريخ إبان عهد الملك فاروق كان مكتوباً مرتين، أولاهما، كي يتم إخفاء ذلك التاريخ، وثانيتهما كي يتم إظهاره ولكن بشكل يخدم مصلحة من يكتبه، لذا عمدت من وراء هذا العمل إلي محاولة تحري الموضوعية والحياد والحقيقة في عرض التاريخ خلال الفترة التي يتناولها المسلسل. وبدوره، إرتأي السوري حاتم علي مخرج العمل، أن التاريخ وجهة نظر بنظر المخرج، يقدمه حسبما يراه أو يقرأه أو يفهمه، وهو ما فعله أثناء تقديم رؤيته الشخصية للملك فاروق، معتبرا أن كل مبدع يتعامل مع الصورة له الحق بإضافة رؤيته إلي العمل الفني دون أن يري في ذلك إقحاماً لوجهة نظر شخصية، حتي المؤرخ تكون مدوناته معجونة بوجهة النظر الشخصية، فذلك جزء من الطبيعة البشرية. لذلك، أكد أنه كان يسعي من خلال المسلسل إلي إعادة قراءة وتناول شخصية فاروق من خلال استعراض تاريخ مصر في تلك الفترة. ثم يأتي بطل المسلسل ومجسد شخصية الملك فاروق، الشاب السوري تيم حسن لينفي أن يكون المسلسل حاول تلميع صورة الملك فاروق، إذ أنه تناول السلبيات والإيجابيات معاً، مشيرا إلي أنه قدم تجربة درامية في إعادة كتابة التاريخ. وأذكر أن الكاتب أسامة أنور عكاشة في رد منه علي اتهامات وجهت إلي أعماله الروائية التي عولجت دراميا بأنها تشوه التاريخ أو لا تقدمه كوقائع حقيقية مجردة، قال ذات مرة أنه ليس مؤرخا وليس معنيا بكتابة التاريخ، فالروائي برأيه يستخدم التاريخ كإطار للحكاية التي يكتبها كي يمنحها الواقعية ويجعلها أكثر قابلية للتصديق. ومع أن الكتابة الإبداعية، بشتي صورها، وإن تقاطعت مع التاريخ أو طالت مراحل تاريخية بعينها لا يمكن أن تكون تاريخاً بالمعني الذي يعرفه المؤرخون ودارسو التاريخ، إلا أنها مع ذلك تبقي مادة حية ممتعة تعين علي فهم هذا التاريخ بصورة أكثر عيانية وسلاسة وتشويقا من الكتابة التاريخية الجامدة التي تكتفي بإعادة سرد ما حدث. بيد أنه يجدر بالمشاهد أن يتعامل معها بوصفها عمل فني درامي، لا أن يترصد لها ويتصيد لها الأخطاء كناقد تاريخي،لأنه بذلك يحرم نفسه متعة الاستمتاع بلون متميز من ألوان الفنون كما يقحم التاريخ في غير محله. وإذا كانت عملية تدوين التاريخ نفسها قد شهدت جدلا واسعا بين المؤرخين والنقاد ودارسي التاريخ جراء الافتقاد في أحيان كثيرة لقلم مؤرخ موضوعي ومحايد، عاصر ظواهر الأمور وخبر خفاياها في آن، قادر علي التعليل والتحليل، صابر علي جمع المعلومات بدأب، أمين علي تحليلها والاستنتاج منها، حريص بشكل دائم علي تسجيل الحقيقة، فما بالنا ننصب المشانق للعديد من صناع الأعمال الدرامية متهمين الكثير منهم بالتلفيق أو البعد بإبداعاتهم عن حقائق التاريخ المكتوب؟! ولست أرمي من وراء طرحي هذا بطبيعة الحال إلي الترويج لمبدأ أو عرف يتخذه بعض صناع الأعمال الدرامية ذريعة لتبريرتجاوزاتهم أو إفتئاتهم المتعمد أوالمغرض علي الوقائع والأحداث التاريخية الموثقة، أو أن يجعلوه مطية يطلقون من خلالها العنان لمخيلاتهم وقدراتهم الإبداعية ضاربين بالنص التاريخي عرض الحائط، ولكني أري أنه ليس من الإنصاف ولا من الموضوعية بمكان أن يؤدي بنا تعنتنا وتدقيقنا المبالغ فيه للأعمال الدرامية وانزلاقنا في فخ المقارنة الجوفاء والمتشددة بين النص التاريخي والعمل الدرامي، إلي أن نغدو جلادين للمبدعين محاصرين للفنون، حتي نجد مبدعينا وفنانينا وقد باتوا أساري مكبلين بخوف مرضي من أن تزل أقدامهم إلي الخروج عن النص، ليس النص الديني أو الأخلاقي ولكنه النص التاريخي، الذي جانبه التقديس ولم يسلم هو ذاته من الاختلاف عليه والجدل بشأن مدي صحته أو دقته أو اقترابه من الواقع أو الحقيقة، ومن ثم يمنعهم حرصهم علي الالتزام بعدم مجافاة الدراما للتاريخ من إعمال الموهبة أو ترك مساحة ملائمة من حرية الإبداع والتعبير للفن كيما يعرض لنا التاريخ بصيغة مشوقة ومبهرة تعين كبارنا علي التدبر واستخلاص العظات التي يمكن الاهتداء بها والاستفادة منها في صناعة المستقبل، كما تساعد صغارنا علي التعلم والمعرفة ومعايشة اللحظات المضيئة والأحداث المشرفة في تاريخنا لتكون بدورها معينا لهم في حاضر ومستقبل ربما يضن عليهم بوقفات أو إنجازات أخري مشابهة. غير أنه يبقي حريا بصناع الدراما تحري أكبر قدر ممكن من الدقة والصدقية حين التعاطي مع التاريخ المكتوب بما لا يقيد إبداعهم ولكن من دون أن تسول لهم أنفسهم الإجتراء علي إعادة كتابته، لا سيما وأن عملية كهذه تبلغ من التعقيد والمتطلبات ما قد يستدعي نوعية أخري من البشر غير صناع الدراما.