يبدو أن التاريخ استقر علي بعض الانتقادات بشأن الطريقة التي أديرت بها الحرب في العراق أثناء بدايتها الأولي. فقد قيل، نظرياً علي الأقل، إن أمريكا قادرة علي تحرير العراق ثم مغادرته، فتم خفض عدد القوات قبل أوانه، وتم نقل المسؤولية الأمنية إلي العراقيين قبل أن يكونوا مستعدين لذلك، كما أن التخطيط للتحديات المستقبلية كان غير واقعي. أما تحقيق "الانتصار في العراق" كما أخبرني أحد المسئولين في سلطة التحالف المؤقتة بعد مرور سنوات علي ذلك، "فإنه كان يعني الإطاحة بالنظام، ولم يعتبر أحد أن الانتصار يعني إقامة بلد قادر علي الاستمرار بعد ستة أشهر علي الغزو". واليوم يطلع علينا "الديمقراطيون"، الذين يتنافسون علي الفوز بترشيح الحزب للانتخابات الرئاسية، بخطط جديدة حول العراق وصلوا إليها بعد تفكير طويل. فهم يريدون خفض عدد القوات الأمريكية قبل الأوان، وتسليم المسؤوليات إلي العراقيين قبل أن يجهزوا لذلك، ولا يطرحون أية خطط للتعامل مع حالة الفوضي التي قد تندلع بعد انقضاء ستة أشهر علي الانسحاب. وهكذا يبدو أن "الديمقراطيين" اختاروا في المحصلة النهائية استنساخ ذات الأخطاء التي ارتكبتها إدارة الرئيس بوش. فقد تحول نقاش "الديمقراطيين" حول العراق إلي سباق محتدم لبلورة استراتيجيات الخروج. وفي هذا الإطار تشير "هيلاري كلينتون" إلي "خطة من ثلاث خطوات لإرجاع القوات إلي الوطن بدءاً من الآن"، ويتعهد السيناتور "باراك أوباما" بسحب "جميع القوات بحلول 31من شهر مارس من السنة المقبلة". ومن ناحيته يرغب السيناتور السابق "جون إدواردز" في تحديد "جدول زمني للانسحاب" يضمن بقاء "بعض الحضور العسكري لحراسة السفارة الأمريكية في بغداد". ومع أن لا أحد يستطيع التنبؤ علي وجه الدقة بتداعيات انسحاب متعجل من العراق، إلا أن العلامات لا تبشر بالخير. فحسب رأي الخبراء مثل "جريد كاجان" من "معهد أمريكان إنتربرايز" من شأن انسحاب شامل للقوات الأمريكية أن يؤدي إلي تطهير عرقي واسع لن يترك سنيا واحدا في بغداد، كما يتوقع مقتل مئات الآلاف من العراقيين. ومن غير المستبعد أن تمتلك القوي المجاورة إجراء التدخل لصالح الأطراف العراقية المتصارعة، ما يهدد بتصاعد وتيرة الحرب الأهلية وتحولها إلي صراع إقليمي. "وحتي إذا ما بقيت الحرب علي مستوي القوي العراقية الداخلية ومورست بالوكالة" كما يقول "كين بولاك" من "معهد بروكينز" إلا أن "حروب الوكالة قد تكون مدمرة بالنسبة للبلدان المجاورة للعراق". ويضاف إلي ذلك أن انزلاق العراق إلي حالة من انعدام القانون سيمكن الإرهابيين من إقامة إماراتهم المستقلة، فحسب تقرير "الاستخبارات الوطنية" الصادر خلال شهر يناير الماضي "ستسعي القاعدة إلي استخدام أجزاء من الأراضي العراقية، لا سيما محافظة الأنبار للتخطيط لهجمات داخل العراق وخارجه". وعندما يواجه المرشحون "الديمقراطيون" بهذه التداعيات الخطيرة لانسحاب مبكر من العراق، فإنهم يردون كما يرد السيناتور الديمقراطي السابق "جون إدوارد": "إن سحب قواتنا من العراق، لا يعني أن نغادر المنطقة". ويري أصحاب هذا الرأي أن أميركا قادرة علي حماية مصالحها الحيوية من مسافة آمنة في الكويت، لكن ما مدي فاعلية حربنا علي الشبكات الإرهابية الباكستانية ونحن بعيدين؟ وما مدي فاعلية الحد من ارتكاب المجازر في السودان ونحن نتفرج عن بعد؟ والحقيقة أن ما يسوقه "الديمقراطيون" هو تهرب من تحمل المسئولية أكثر منه حجة مقنعة. وهناك بعض خبراء السياسة الخارجية من الحزب "الديمقراطي" من يسعي إلي التقليل من مواقف مرشحيهم باعتبارها موجهة للاستهلاك المحلي، لكنهم فقط يبرهنون مرة أخري علي عدم مصداقيتهم أمام الرأي العام الأمريكي. فحسب هذا الرأي سيعلن الرئيس "الديمقراطي" بسهولة أمام الشعب الأمريكي أن "الظروف هي أسوأ مما كان يخشي" وسيسارع إلي تبني خطة تدريجية وأكثر مسئولية. بيد أن مشكلة أخري تبرز جراء هذه المقاربة تتمثل في تغذية الميول الانعزالية الطبيعية الموجودة في أمريكا. فمع أنه لا توجد دولة تريد إرسال أبنائها للقتال في صحراء بعيدة، إلا أن ذلك قد يولد حالة من عدم المسؤولية تخرج عن نطاق السيطرة. ففي عام 1974 قطع الكونجرس تمويله لكمبوديا وجنوب فيتنام ما أدي إلي سقوط سريع لحلفائنا، وهو ما يشير إليه "هنري كيسنجر" في مذكراته من خلال قصة رئيس الوزراء الكمبودي السابق "سيريك ماتاك" الذي رفض ترك بلاده. "أشكرك جزيل الشكر" كتب مخاطباً "كيسنجر" علي اقتراحك بنقلي إلي الحرية، لكني لا أستطيع مع الأسف ترك بلدي بهذه الطريقة الجبانة. أما فيما يتعلق بك وببلدك العظيم، فإنه لم يتبادر إلي ذهني قط أنكم ستتخلون عن شعب اختار الحرية. لقد رفضتم حمايتنا ولا نستطيع فعل شيء إزاء ذلك، وكل ما أتمناه أن تعيش بلادكم حياة ملؤها السعادة. وعليكم أن تتذكروا شيئاً واحداً أنه إذا كتب علي الموت هنا، فإنني لا أبالي لأننا نولد ونموت، لكن خطئي الوحيد هو إيماني بكم أيها الأمريكيون". وفي الأخير بعد أن انسحبت الولاياتالمتحدة من الهند الصينية لقي ما بين مليون ومليوني شخص حتفهم علي يد "الخمير الحمر"، أما رئيس الوزراء "ماتاك" فقد أصيب بطلق ناري في معدته ومات بعد ثلاثة أيام. لذا فإن السلام الذي تتوق إليه أمريكا قد يتسبب في أشباح تلتهم الآخرين.