"الي اولئك الذين يسخرون من المواطنين.. يكتبون كل يوم ويرفعون الشعارات والمواطنون صامتون... ويتصورون انهم وكلاء المواطنين... وفجأة يقول المواطنون كلمتهم عاليا وبوضوح". بعدما انتهي الاستفتاء الشعبي علي التعديلات الدستورية الاخيرة سواء تمت وسط اجواء من الهدوء والاستقرار والتأييد ام وسط اجواء من التوتر ومظاهرات الرفض المعارضة فلابد وان تنطوي هذه الصفحة وتستبعد حالات الاستنفار سواء الامنية او الاعتصامات الاحتجاجية والشعارات المطاطية.. فبقوة القانون وحماية الدستور سيكون دستور 2007م المعدل هو الدستور الدائم لفترة قد تطول او تقصر ولامناص من رفضه او التحايل عليه.. ولكن السؤال ما المطلوب فعله وانجازه الان سواء من الحزب الحاكم وحكومته او قوي المعارضة التي قاطعت الاستفتاء والرافضة لبعض التعديلات؟... فالامانة والضمير السياسي الحي يجب ان يتفاعل مع نتيجتين من نتائج هذا الاستفتاء اولاهما: ان ما يزيد علي المليوني ناخب ذهبوا لمقرات الاقتراع رفضوا هذه التعديلات بآلية ديمقراطية شفافة اي بنسبة 24% ممن ادلوا بأصواتهم.. وثانيتهما ان عدد الذين شاركوا لا يزيد عن 10 ملايين ناخب رغم ان المقيدين بجداول الانتخاب يفوقون الثلاثين مليون ناخب اي بنسبة لا تزيد عن 25% .. هذه الحقيقة هي التي يجب ان يعيها الضمير السياسي سواء الحزب الحاكم او الاحزاب السياسية الشرعية التي قاطعت الاستفتاء ورفعت الشعارات ونظمت الاعتصامات وخلعت الألقاب علي الاستفتاء.. فبعد أن تطوي صفحة الاستفتاء وجب الانصياع لمصلحة الوطن واحترام نتيجة الاستفتاء بمؤيديه ورافضيه وان تتجه النضالات الي نقطة البداية الجديدة للاصلاح السياسي في مصر فهذه التعديلات سيترتب عليها عدد من التشريعات سيبدأ البرلمان بالنظر فيها كقانون مباشرة الحقوق السياسية وتشكيل واختصاص وضمانات اللجنة العليا للانتخابات والمقرر ان تبدأ عملها بالاشراف علي انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشوري في يونيو القادم وكذلك صياغة تشريع جديد يحل محل الذي ينص علي وجود المدعي العام الاشتراكي ومحكمة القيم وكذلك قانون مكافحة الارهاب والادارة المحلية ومجلس الشعب خاصة فيما يتعلق بالنظام الانتخابي الامثل وتمثيل المرأة بالبرلمان. ان النضال الحقيقي للاحزاب السياسية الشرعية والجماعة السياسية برمتها تجاوز المقاطعات والنحيب والاعتصامات علي سلالم النقابات والعويل علي تاريخ التزوير الكبير وعدم الثقة في الحكومة.. وحزبها فلقد تجاوز ما يزيد علي المليونين من المواطنين هذه الثوابت المكررة والنغمات اليائسة وبث روح التشفي والانعزالية فقد اثبت هؤلاء انهم لم يتأثروا بهذه الادعاءات ولم يطيعوا مقاطعات الاحزاب والحركات الاحتجاجية وراحوا يؤكدون ان لهم حقا في هذا الوطن تساووا فيه مع الذين قالوا نعم وهذه هي الديمقراطية بمعناها المسئول.. فالديمقراطية كما انها تضمن حق الاختلاف في الرأي فانها يجب ان تفتح الباب ايضا للعمل المسئول في كل ما يحقق مصلحة الوطن والمواطن... فالدرس الذي يجب الوعي به والمكوث امامه والاستفادة من عبراته ان المشاركة السياسية في مصر مازالت غائبة عن وجدان المصريين وروح الانعزالية هي السائدة نتيجة فقدان الثقة في الجماعة السياسية برمتها فهل آن الاوان لبناء مجتمع رشيد يستفيد من هذه التحولات النوعية في وجدان المصريين أفليس الحوار حول "الكتاب الجليل" اي "الدستور" في الشهور الاخيرة قد حطم سكون التفاعل السياسي وراح المواطنون يدركون معني وأهمية هذا الكتاب الجليل وان لهم دورا اساسيا فيه من خلال موافقتهم او اعتراضهم علي ما يشوبه من نقائص او شوائب. فالنضال الحقيقي والفعال للجماعة السياسية المصرية هو ان تفعل من المواد الدستورية سواء المعدلة او التي لم يمسها تعديل رغم ما بها من مزايا وقوة تضاهي اكبر دساتير ديمقراطية في العالم... الا انها ماتت او اقصيت مع كل حالات الوعي الزائف الذي ساد الوطن منذ عقود وبث روح الانهزامية والانعزالية عبر سنوات عجاف.. فهل حان الوقت لتفعيل قيم ومباديء هذا "الكتاب الجليل" عبر نضالات مدنية تحكمها آليات قانونية منضبطة لا تنقلب تحت شعارات مطاطية ولا يجور عليها عبر تسلط الحزب الحاكم وانما عبر مشاركة تضامنية من جميع القوي السياسية. ان الاصوات التي تمر بها البلاد من خلال هذه التفاعلات تعد نقطة تحول عميقة في تاريخ هذه الامة وكان الحوار السياسي الساخن بين جميع القوي السياسية معبرا عن مخاض مرحلة جديدة في تاريخ هذه الامة فالدستور الان ولاول مرة اصبح ملكا للشعب ولا مناص من حمايته من الانقضاض عليه سواء بتصورات معينة من الحزب الحاكم او من الطوائف الفاشية التي تحاول الانقضاض علي مبادئه الرفيعة وتحوله الي وثيقة بردية داخل متحف التاريخ وذلك من خلال ممارسات سياسية تنقض علي المدنية وتؤصل لمجتمع فاشي تحكمه هيئات ايديولوجية ماضوية... وبناء عليه فاذا لم تؤخذ في الاعتبار طبيعة الاوضاع في مصر فستكون هناك مخاطر وعواقب وخيمة واهتزاز البناء السياسي برمته مما ينعكس بالضرورة علي البنيان الاجتماعي والمؤسساتي فيتصدع تصدعا لا ريب فيه.. فلابد من اصدقاء الديمقراطية وحقوق الإنسان ان يعوا منطق الظرفية ففي هذا الإطار إذا اعترفنا بأهمية المؤسسات الديمقراطية فعلينا ايضا ان نقيس المخاطر التي تحدق ببنية المجتمع قيد التحول الديمقراطي بالاضافة الي صعوبة تسيير الانظمة الديمقراطية في البلدان التي تكون فيها المؤسسات ضعيفة نسبيا ويتطلب تعزيزها بعض الوقت.. فقد اظهر لنا التاريخ المعاصر ان هناك احتمالا اكبر بان تفضي عملية تحول نحو النظام الديمقراطي الكامل الي نزاع داخل الدولة نفسها ومؤسساتها المختلفة.. وتشير الدراسات العملية المنضبطة الي ان هذا الخطر يكون ضئيلا خلال المراحل الاولي ولكن يزداد بشكل ملحوظ خلال السنوات العشر التي تلي هذا التحول الدراماتيكي كما حدث في ارمينيا واذربيجان وروسيا وصربيا والعراق الان.. فالانظمة قيد التحول قد تشكل الارضية لبروز نزاعات داخلية والي بروز حركات اثنية واصولية ومن هنا يجب اولا تعزيز الجهات المعنية والمؤسسات الضرورية لانجاح العملية الديمقراطية كالاحزاب السياسية والنظام القانوني والقضائي فلا ديمقراطية ولا تنمية اقتصادية دون هذا الاطار.. ولذلك فان القوي السياسية المدنية والاحزاب السياسية الشرعية تواجه تحديات كبيرة للخروج من ازماتها وتتفاعل علي الواقع السياسي الحي من خلال التفاعل مع النتيجتين التي اشرت اليهما في صدر مقالي وان تجهز البيئة الداخلية لها للتحرك بايجابية لزيادة دورها وتأثيرها في الحياة السياسية المدنية التفاعلية وألا ترتكن لشعارات تبعدها عن الواقع السياسي الحي، فامامها فرصة خاصة في ظل العشر سنوات القادمة قبيل تطبيق نصوص وواجبات الترشيح لرئاسة الجمهورية في المادة 76 من الدستور بتعديلاتها الاخيرة وان تستفيد الاحزاب السياسية من هذه الخطوات في التعديلات الدستورية لتخطو منها خطوات ايجابية للوصول الي الشارع السياسي واختبار قدراتها وتأثيراتها وتتفاعل مع التحديات التي تواجه الوطن والمجتمع.