الفقر عورة تكشف سوءات البشر وتكشف سترهم أمام أنفسهم، تطحن روحهم لتحولها هباء منثورا. تحولهم الي أشباح تحاول عبثا البحث عن آدميتها تحت أنقاض الكرامة في معركة النأي عن بيع الذات، إلا ان البطون الخاوية تستسلم لفتات تسد رمقها لان الحاجة تذل البشر وتجبرهم علي بيع كل شيء حتي صوتهم والتخلي عن رفاهية الاختيار حتي لو كان اختيارهم كتم الشهادة التي أفتي المفتي ان من كتمها آثم قلبه، ليكون البديل هو تزوير الشهادة مع سبق الاكراه تحت سلاح الفقر واكراه القلب باختيار "لا" واكراه القلم باختيار "نعم" تحت شعار "قول رأيك بحرية". اتصلت بي مدرسة تاريخ تبكي كمن فقد عزيزا غاليا وقالت لي "كيف أكون مدرسة تاريخ وأزور شهادتي، هل تتخيلي أنني أزور التاريخ بيدي. كيف اعلم الأولاد التاريخ، كيف أكمل حياتي وأنا أعامل كالقطيع، لقد حشدونا في سيارات نحن المدرسات المحترمات لكي نذهب الي مركز الاقتراع تحت ضغط مدير المدرسة، الي هذا الحد يمكن التعامل مع المشكلة فأنا سوف اعبر عن رأيي بحرية خلف الستار لكني فوجئت في لجنة الاقتراع اننا بأمر مدير المدرسة لابد ان نصوت امام اللجنة التي لم يكن بها قاض ونشير الي خانة "نعم" وإما التنفيذ أو الفصل من المدرسة والحرمان من الدخل، كيف يمكن ان اقول نعم لكل شيء ارفضه، كيف اقبل ان ازور شهادتي وأقول نعم حتي لا أفقد وظيفتي، واذا قلت لا لأحافظ علي احترامي لنفسي واستطيع مواجهة تلاميذي، كيف أسد حاجات اسرتي التي تركوها تعيش علي الكفاف وبالكاد نبقي أحياء، هل أقول لمن جوعونا نعم، أم أقول لا لنموت من الجوع فعلا. لم أجد إلا ان اقول لها هدئي من روعك يا سيدتي فما قمت به ليس خيانة لافكارك وتلاميذك، فأنت في حكم المضطر كمن أكل اللحم الميت ليحيا أو شرب الخمر ليصارع الموت. فلا ذنب عليك ولا مسئولية والله ارحم عليك من نفسك واقدر علي تفهم ظرف الاضرار وان فرجه لقريب انهيت المكالمة بعدما نجحت انا في تهدئتها ونجحت هي في اشعالي لأجد عشرات الاسئلة تتدافع في رأسي. اذا كانت القصة محسومة والسيناريو معدا، لماذا نشرك الناس علي غير ارادة ونسحق ذاتهم ليفقدوا البقية الباقية من احترامهم لأنفسهم في قتل للذات مع سبق الاصرار؟ ولماذا نضيع علي الدولة الكثير من الوقت والجهد؟ لماذا ننفق الملايين أو المليارات في سيناريوهات نتائجها محسومة؟ اموال كانت كافية لانقاذ الملايين من الفقر المدقع وتوفير فرص عمل للآلاف من الشباب والشابات وتطوير جزء كبير من مدارس الفقراء وانقاذ الكثير من المرضي بأمراض خطيرة من الوقوف في طوابير لاجراء عمليات ربما لا تتمكن من انقاذ حياتهم لأن قائمة الانتظار اطول من مهلة القدر. لو كان كل هذا لاحكام السيطرة علي مقادير البلاد والعباد فليكن دون اجبار الناس من المشاركة تحت قهر الفقر حتي لا تقتلوا الروح والنفس التي حرم الله قتلها.