· الحكومة والمعارضة تتفقان في رغبة «الاستئثار» بالحكم وتجاهل الجماهير · لن يتحقق الإصلاح إلا بتحرير المواطن من الخوف والجوع والفقر والقمع المتأمل لأحوال المجتمع المصري في الفترة الأخيرة يمكنه أن يلحظ حالة عامة من التبلد واللامبالاة والتسيب والإهمال، سواء لدي العامة من الناس، أو حتي لدي الأجهزة الحكومية المسئولة عن ا لبلد، والنتيجة، موجات متتالية من الأزمات والمشكلات التي تعتصر المجتمع ا لمصري، وتهدد كيانه وتماسكه. كيف يمكننا تغيير هذا الواقع المؤلم؟ حملنا هذه الأسئلة وغيرها من هموم المجتمع المصري إلي الدكتور سمير نعيم أحمد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس عضو الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، والذي يصفه زملاؤه وتلامذته «السوسيولوجي المخضرم» حيث عاصر تطور المجتمع المصري عبر العديد من الحقب الزمنية منذ ما قبل ثورة يوليو وحتي الآن، فكان هذا الحوار. يعاني مجتمعنا من سيادة سلبية كالفساد والرشوة والسلبية وغيرها، في رأيك ما أخطر هذه القيم علي مجتمعنا؟ -رغم تعدد القيم السلبية التي شهدتها مصر منذ فترة الانفتاح حتي الآن، والتي تجسدت في مظاهر سلوكية انحرافية عديدة، منها نهب المال العام وانتشار الفساد والرشوة والاختلاس، وعزوف الغالبية العظمي من الجماهير عن المشاركة السياسية والمجتمعية، إلا أن الأخطر من ذلك كله في نظري هو انتشار ما أسميته بقيم ا لاستهانة، التي تصل إلي حد إمكانية تسميتها بثقافة الاستهانة، فهي أخطر معوقات تطور المجتمع المصري وتقدمه. وما الذي تقصده بثقافة الاستهانة؟ - الاستهانة بشكل عام ضد الحرص، وهي مرتبطة بعدم تقدير قيمة أي شيء، بدءا من قيمة الحياة والسلامة الشخصية والكرامة، إلي قيمة النظافة والجمال، فالملاحظ أن هناك استهانة بكل شيء تقريبا، وأخطر مظاهرها الاستهانة بحياة الانسان وسلامته وأمنة وكرامته بل وآدميته، فما بين شوارع لا تصلح للسير، ومواصلات متهالكة، وطرق غير أمنة، إلي المبيدات المسرطنة والمياه الملوثة والأغذية الفاسدة، العشرات يموتون يوميا علي الطرق، والمئات غيرهم يموتون غرقا في عبارات متهالكة أو مراكب هجرة غير شرعية، وغيرهم حرقا أو تحت الانقاض، أضف إلي ذلك الاستهانة العامة بموارد الدولة وثرواتها القومية والمصلحة العامة والقانون حتي من القائمين علي تنفيذه وحمايته. ومن المسئول عن سيادة هذه القيم؟ - هناك نماذج سلوكية تتحمل نتائجها بالدرجة الأولي فئات معينة وبالدرجة الثانية جميع المواطنين والمؤسسات لتغاضيها عنها أو التستر عليها، فالفئات التي تتاجر في الأغذية الفاسدة أو الأدوية المغشوشة لا تدرك انها كانت تهلك غيرها بهذه السلع، إلا أنها تهلك نفسها أيضا، من أين تنبع ثقافة الاستهانة في مجتمعنا؟ - المصدر الأساسي لقيم وثقافة الاستهانة هو مؤسسات المجتمع ذاته، فالمفروض أن الحكومة هي عقل المجتمع، الذي يدبر ويفكر لمصلحة المجموع، فأنا يمكنني أن أفكر لنفسي ولكنني كفرد لا أستطيع أن أدبر شئون المجتمع ككل، فهناك أمور لا يقدر عليها سوي الدولة وأجهزتها، مثل إصلاح المرافق والمواصلات والخدمات العامة وغيرها. هل يعني ذلك انعدام القيم الإيجابية لدي المصريين؟ - بالطبع لا يمكن القول بذلك، فكل قيمة توجد في المجتمع ومعها نقيضها في نفس الوقت، وعلي ذلك فالمجتمع المصري لا يعدم الآن، ولم يعدم أبدا، قيما ايجابية بناءة ومحفزة علي التقدم والارتقاء، ونستطيع أن نجد تجسيدا لها في سلوكيات أفراد وجماعات في مختلف قطاعات الحياة في مصر، وعلينا تشجيع هذه القيم وتدعيمها ونشرها بكل السبل. وهل ذلك هو المسبب في تزايد الأزمات التي يمر بها المجتمع عاما بعد آخر؟ - الأزمات المتعددة التي يعاني منها المجتمع تمثل ضغوطا مدمرة علي المصري، الذي لا يجد أمامه - في ظل تخلي الدولة عن العديد من أدوارها الأساسية - سوي اللجوء إلي الحلول الفردية الذاتية لمواجهة هذه الأزمات التي لا يتحمل هو مسئولية حدوثها، وهكذا تتحول الأزمة من قضية عامة يمكن أن يشارك جميع المواطنين في حلها في ظل خطة قومية شاملة تضعها الدولة إلي مشكلة خاصة فردية علي كل مواطن أن يحلها بطريقته الخاصة. البعض يقارن بين أحوال المجتمع الآن وقبل ثورة يوليو من حيث انتشار الفساد وتزايد حدة التفاوت الطبقي وغيرها. هل تري وجها للشبه بين الفترتين؟ - بالطبع هناك تشابه في بعض الظروف، ولكن أيضا الفروق بين الفترتين كبيرة جدا، فبالنسبة للفساد مثلا، فقد أصبح معمما وأكثر انتشارا، بل وتحول من الشكل الفردي كما كان قديما، ليصبح فسادا مؤسسيا متداخلا بشدة في صميم النظام الاجتماعي كله، فقديما كان الموظف مثلا يحصل علي راتب من عمله يكفي احتياجاته ويحفظ له كرامته، وبالتالي كان أكثر احتراما وأقل فسادا، أما الآن، فالدولة تدفع المواطنين للفساد، فهي تدفع للموظف مرتبا هزيلا وتقول له «اتصرف وعيش نفسك. وماذا عن التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء؟ - التفاوت الطبقي الذي كان موجودا قبل ثورة يوليو لم يكن يقسم المجتمع مكانيا واجتماعيا كما هو حاصل الآن، فقديما كان الفقراء والأغنياء يتعايشون سويا ويتفاعلون معا بايجابية، ولم تكن الزمالك مثلا معزولة بأسوار عن سكان بولاق تمنعه من دخولهم، أما الآن فالاغنياء يعزلون أنفسهم مكانيا في مجتمعات مغلقة خاصة بهم لا يدخلها غيرهم، وهناك استقطاب مكاني حاد بين فئات المجتمع. وقديما لم يكن الثراء بهذه الدرجة من الاستفزاز الفاحش والتي تظهر في سلوكيات الأغنياء ويراها الفقراء سواء من خلال وسائل الاعلام التي تتناقل حياة القصور والفيلات، أو حتي في الشوارع العامة والحياة اليومية. وكيف تري مستقبل هذه العلاقة بين الفقراء والأغنياء في مصر؟ - هناك ثلاثة سيناريوها مطروحة علي المستوي العالمي لتصور هذه العلاقة في المجتمعات الفقيرة مثل مصر، الأول يمكن تسميته بسيناريو «القلاع الحصينة» وفيه تظل الفوارق الطبقية علي حالها، ويزداد تحصن الأغنياء في قصورهم ومجتمعاتهم المغلقة، من عينة مدن الرحاب ومدينتي وغيرها، والتي لا يستطيع أحد من غير ساكنيها دخولها دون تصريح خاص ، ولكن استمرار هذا الوضع لابد أن يقود في النهاية إلي ثورة عامة علي هذه القلاع وقاطنيها، ليقع المجتمع في حالة من الفوضي العارمة وموجة من العنف الجماعي. أما السيناريو الثاني فيمكن تسميته بسيناريو «السوق المعدل» فالمعروف أن نظام ا لسوق هدفه الاساسي هو الربح، بأي وبكل وسيلة ممكنة، بالفساد، بالاتجار في الممنوعات، وحتي بالاتجار في البشر أنفسهم، وهذا النظام يعمل لصالح فئة معينة محدودة تمثلها الشركات عابرة القوميات المستفيد الوحيد من هذا الوضع، وهو وضع مدمر جدا. أما السيناريو الأخير فهو حدوث تغيير جذري شامل في شكل النظام ككل ، وهو تغيير بعيد المدي، يتحول فيه النظام ككل بعيدا عن نظام السوق تماما، ليظهر نظاما آخر يحقق المنفعة الاجتماعية والعدالة لجميع أفراد المجتمع من خلال إعادة توزيع الثروة. وأعتقد أن السيناريو الثاني هو الأقرب للحدوث في مصر. وماذا عن إمكانية قيام ثورة شعبية؟ - لم يحدث في التاريخ أن قامت ثورة شعبية واستطاعت تغيير النظام دون أن تكون مدعومة بقوة مسلحة، إما في شكل حركة يقودها الجيش كما حدث في ثورة يوليو، أو في شكل ميليشيا مسلحة كما هو الحال في بعض دول أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، أما التغيير المدني السلمي فانه لن يحدث إلا من داخل النظام نفسه. كيف يمكن أن يحدث التغيير داخل المجتمع؟ - أعتقد أن ما يحدث الآن من احتجاجات متكررة لفئات عديدة من الشعب قد يكون هو المقدمة لإحداث هذا التغيير، فهذه الاحتجاجات الفئوية يمكنها أن تصبح بداية لحركة شعبية احتجاجية شاملة، يمكنها أن تتخذ في النهاية شكل العصيان الذي يقود للتغيير. ولكن الشرط الأساسي أن تستطيع هذه الحركات توحيد نفسها والاندماج تحت قضية عامة واحدة يلتف حولها المجتمع، وأغلب تياراته المتعارضة. وما لم يحدث ذلك فلن تنجح أي حركة منها في إحداث تغيير كبير، والدليل علي ذلك فشل حركة 6 أبريل في تنفيذ الاضراب العام الذي دعت اليه. وهل هناك قوة منظمة يمكن أن تقود هذه الحركات لإحداث التغيير المنشود؟ - لا أعتقد ذلك، فالقوة الوحيدة المنظمة في مصر هي الإخوان المسلمون، وهم من المستحيل أن يستولوا علي السلطة بأي كيفية من الكيفيات. هل تعتقد أن الأحزاب خاصة المعارضة يمكنها القيام بدور في الاصلاح السياسي والمجتمعي؟ - جميع الاحزاب في مصر تنظميات «فوقية»، لا تستند إلي قواعد جماهيرية تذكر، وتفتقد في ممارستها أبسط المباديء الديمقراطية التي تنادي بتطبيقها ولذلك فالفجوة بين الحكومة والمعارضة فيما يتعلق برؤية الاصلاح تنحصر فقط في رغبة كل طرف في الاستئثار بالحكم، وفيما عدا ذلك هناك اتفاق شبه تام لدي الطرفين علي تجاهل الجماهير ومشاركتها السياسية الفعلية في الحكم أو إدارة شئون حياتها، فكلاهما - الحكومة والمعارضة - ينظران إلي المواطن المصري باعتباره صوتا انتخابيا فقط، وليس باعتباره شريكا فعالا في الإدارة والحكم واتخاذ القرارات علي مختلف المستويات. كيف يمكن تحقيق هذا الاصلاح؟ - لن يتحقق الاصلاح إلا بتحرير المواطنين من الخوف والجوع والفقر والقمع. ولذلك يجب أولا جعل الجمهور في بؤرة الاهتمام، وطرح مشروع قومي تلتف حوله كافة القوي الاجتماعية والوطنية يكون شعاره تحقيق انسانية الانسان المصري «من خلال نهضة شاملة اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وعلمية، تعتمد بالدرجة الأولي علي الاستغلال الأمثل لإمكانيات المجتمع البشرية والمادية بدون إهدار، وعلي ضمان حقوق الانسان للارتقاء بأحوال المصريين وتحقيق العدالة الاجتماعية والرفاهية والتقدم.