يستطيع المرء أن يتفهم قرار رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، والقاضي بخفض قواته في العراق بنحو 1600 جندي، إذا ما علمنا أن عليه اتخاذ القرار الصعب فيما يتصل بكيفية نشر قواته العسكرية محدودة العدد أصلاً. وقد فعل ذلك علي نحو معقول، لإدراكه بأن أولويته القصوي في الوقت الراهن، هي إرسال التعزيزات العسكرية إلي أفغانستان، حيث يعاني حوالي 5.500 جندي بريطاني الأمرَّين هناك في محاولة لصد الهجوم المضاد من قبل مقاتلي حركة "طالبان". غير أن سبب مأساة بلير هو كونه يتعين عليه أن يسرق بيسراه ما تعطيه يمناه، نظراً لعجز بريطانيا الفعلي عن الإبقاء علي قوتها البالغ قوامها 7000 جندي في العراق، إلي جانب نشر قوة أخري بالعدد نفسه من الجنود في أفغانستان. فتلك قوة عسكرية مهولة وغير مقدور علي نشرها من قبل دولة لا يزيد تعداد سكانها علي 60 مليون نسمة، بينما يأتي اقتصادها في المرتبة الخامسة من حيث الترتيب العالمي. وعلي رغم استمرار بريطانيا في لعب دور رئيسي علي المسرح الدولي، فإنها سمحت لمظاهر الضعف والوهن أن تعتري جيشها ونظامها الدفاعي. ذلك أن الحجم الإجمالي لجيشها قد تقلص من 350.000 جندي في عام 1990 إلي نحو 195.000 اليوم، مما انحدر به إلي مرتبة الجيش الثامن والعشرين في سلم الترتيب العالمي، أي أنه يأتي في مرتبة أدني مما هي عليه مرتبة الجيشين الإريتري والبورمي مثلاً! وقد أسفر هذا الخفض الكبير في عدد القوات البريطانية (بنحو 107 آلاف جندي)، عن أن يكون الجيش البريطاني كله، معادلاً لنصف عدد قوات "المارينز" الأمريكية وحدها. وإلي ذلك فقد اندثرت اليوم في تكوينات وتشكيلات الجيش البريطاني، وحدات وكتائب كانت تهز الأرض وتقيمها علي امتداد القرون، مثل كتائب "بلاك ووتش" و"رويال سكوتس" وغيرهما. والأسوأ من ذلك ما لحق بوحدات "البحرية الملكية" العريقة التي ضمرت اليوم إلي أصغر حجم لها منذ القرن السادس عشر. فوفقاً لما نشرته الصحف البريطانية عن هذه الوحدات، فإن من المتوقع وضع ما يتراوح بين 13 و19 سفينة حربية خارج الخدمة، من جملة عدد سفن الأسطول البحري البالغة 44 سفينة اليوم. وفيما لو حدث ذلك، فسيتقلص الأسطول البريطاني إلي ما يعادل نظيره الإندونيسي أو التركي، وأدني بكثير من منافسه التاريخي، الأسطول الفرنسي. علي أن بريطانيا ليست هي الدولة الوحيدة التي اتجهت نحو نزع التسلح هذا. بل يمكن استقصاء اتجاه مماثل في جميع الدول الحليفة الرئيسية للولايات المتحدة تقريباً، باستثناء اليابان. وتعد كندا أبرز مثال علي ذلك بين هذه الدول مجتمعة. فقد كان لها في نهاية الحرب العالمية الثانية، ما يزيد علي المليون جندي مسجلين تحت الخدمة، بينما كان يحتل أسطولها البحري المرتبة الثالثة عالمياً، بعد الأسطولين الأمريكي والبريطاني، إذ كانت قوته تصل إلي ما يزيد علي 400 سفينة حربية. أما اليوم فقد انخفض عدد المجندين الكنديين إلي 62 ألفاً فحسب، بينما لا يزيد عدد السفن الكندية الحربية علي 19 سفينة فحسب، إلي جانب 23 سفينة أخري داعمة، ما يعني انخفاض الأسطول الكندي إلي ثلث قوة خفر السواحل الأمريكية! وبالطبع فإن الأرقام وحدها ليست هي نهاية القصة، إذ أن لكلتا الدولتين، بريطانيا وكندا، من الكفاءة والقدرة العسكرية ما لا يزال يحافظ علي تفوقهما عسكرياً إزاء كثير من الدول الأخري. غير أن هذا لا يمنع الإقرار بحقيقة تقلص دورهما ومهامهما، وما تعانيانه حالياً من نقص حاد في عدد قواتهما العسكرية. والحقيقة الثانية أيضاً هي أن نوعية وجودة الأداء العسكري، لا تقلل من أهمية الكم والعدد. ويبقي بعد ذلك أن نضيف أن هذا النقص الحاد في عدد القوتين البريطانية والكندية، لا تقتصر آثاره السلبية علي الدولتين المذكورتين وحدهما، بل تطال تلك الآثار الولاياتالمتحدة نفسها. فمع نشر هذه الأخيرة لحوالي 165 ألف جندي في كل من العراق وأفغانستان، وتوقع إرسال مزيد من الجنود إلي العراق في الأشهر القليلة المقبلة، فإن ذلك لا يعني شيئاً آخر سوي استنزاف الطاقة العسكرية البشرية للجيش الأمريكي. ولذلك فقد أضحت أمريكا في أمسِّ وأشد الحاجة إلي الدعم العسكري من قبل حلفائها المقربين، في حين أنه لم يبقَ لهؤلاء ما يذكر من دعم وعون يمكنهم تقديمه لها في واقع الأمر. والعامل الرئيسي وراء هذا الوضع كله، هو انخفاض مستوي التمويل الدفاعي في الدول الحليفة للولايات المتحدةالأمريكية. فوفقاً للدراسة الصادرة عن "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية"، فقد انخفضت الميزانيات الدفاعية للدول الأعضاء في حلف "شمال الأطلسي" (الناتو)، عدا الولاياتالمتحدةالأمريكية، بما يعادل نسبة 2.49% من إجمالي ناتجها القومي خلال عام 1993، إلي 1.8% من ذلك الإجمالي نفسه في عام 2005. وما لم تعمل هذه الدول علي تصحيح هذا الخلل، فليس من سبيل لتصحيح الأحادية العسكرية الأمريكية مطلقاً.