في يوم من الأيام تحدثت كونداليزا رايس _ وزيرة الخارجية الأمريكية _ عن الفوضي الخلاقة أو البناءة في الشرق الأوسط؛ وكان ما قالته علي سبيل النبوءة الفوضي أمرا واقعا ولكن شيئا لم يكن أبدا خلاقا يصنع تقدما أو يقيم سلاما بالمرة، وبالتأكيد كان كل ما يجري متعلقا بالهدم وليس البناء. كان الفصل الأول من الفوضي هو حالات الصراع الداخلي الذي يصل إلي الحرب الأهلية، وعندما يكون الصراع الداخلي قائما علي الدين أو العرق أو المذهب فإن دموية الحرب الأهلية تصبح زائدة بحيث لا تكف أبدا عن تزويد حريقها بالوقود كلما بدا أن الحرب استنزفت أغراضها، أو باختصار أن الناس قد زهدت في الحرب أو وصلت إلي درجة عالية من الإجهاد المادي والمعنوي. وكانت لبنان هي المثال الصافي علي تلك الحالة من الفوضي الهدامة، إلا أنها بعد ستة عشر عاما من الاقتتال والتناحر لم تجد بدا من السلام بعد أن خف زيتها وقل عزمها. ولكن التجربة اللبنانية لم تلبث أن تكررت بحذافيرها في أفغانستان والعراق والصومال وفلسطين وباتت حالة الفوضي هي القاعدة أما حالة الاستقرار فهي الاستثناء. المشكلة في الموضوع هي أن منطقة الشرق الأوسط كلها منطقة أشبة ببرميل للوقود الذي يوشك علي الانفجار، ومن الممكن تحديد عشرات الأسباب لهذه الحالة التعيسة منها الاستعمار، ومنها إسرائيل، ومنها عجز النخب السياسية عن إقامة نظم سياسية شرعية تلقي القبول العام، ومنها حالة التخلف العامة في الثقافة السياسية بحيث أن عددا من الأيديولوجيات البائسة وجدت لنفسها مجالا فسيحا في المنطقة. ولكن كل أنواع الفوضي التي تولدها كل هذه الأسباب لا تقود دوما إلي ما تصورته الوزيرة الأمريكية وهي أن تكون الفوضي مقدمة للتغيير، والتغيير نحو الأفضل. فمن وجهة نظرها أن أسوأ الأوضاع علي الإطلاق ليس الثورة وليس الفورة وليس حتي معاداة الولاياتالمتحدةالأمريكية وكراهيتها وإنما هي حالة الجمود والركود التي تجعل المجتمعات تنغلق علي نفسها فتبتعد عن سوق الأفكار العالمية قبل سوق البضائع الدولية ومن بعدها تخرج كل الأفكار الظلامية والإرهابية إلي الوجود. ولذلك فإن الفوضي علي كل علاتها أفضل حالا من مجتمعات لا تتحرك لا إلي الأمام ولا إلي الخلف، فهي تحرك كل العناصر وتولد الكثير من الطاقات، وبعد عملية جدل تاريخية لا بد منها تتفتح فرص التغيير والتقدم. كانت هذه هي النظرية التاريخية حتي وصلت إلي الشرق الأوسط فإذا بالفوضي تتحول إلي حالة مزمنة، وتنتقل من حالة السيولة إلي حالة العفونة. ولم يكن معني ذلك أن المنطقة لم تعرف الحرب الأهلية من قبل، فقد عرفتها في الحرب الأهلية اللبنانية، كما عرفتها في الحروب الأهلية السودانية واليمنية؛ ولكن الجديد في الأمر كان دخول العناصر الأصولية الإسلامية علي الساحة فلم تعد الحرب بين قبائل سوف تتفق ذات يوم، أو بين طوائف سوف تصل إلي حل باقتسام السلطة، أو بين أعراق سوف يأتي يوم تقتسم فيه الثروة. فقد أصبحت الحرب حول المجتمع وليس الدولة، وحول مصير الأمة الإسلامية وليس بلادا بعينها، وببساطة أصبحت المسألة كلها صراعا مستمرا مثل ذلك الذي كان يشار له في الفكر الماركسي بالثورة المستمرة حيث لا يهدأ لحال الثوريين بال إلا بعد قلب العالم كله رأسا علي عقب. وكانت البداية في أفغانستان التي انتقلت من حرب أهلية إلي حرب أهلية أخري، ومن أصولية إسلامية إلي أصولية أخري، ثم تلتها العراق والصومال، أما السودان فقد كانت هناك منذ وقت طويل. وجاءت الغزوات الأجنبية الأمريكية والأطلنطية لكي تلقي الحطب في النار، وتعمق الفوضي إلي الدرجة التي لا يبقي منها لا ما هو خلاق ولا ما هو بناء. وعلي الأبواب تقف الآن لبنان علي قيد شعرة من الصراع المسلح، وتقف فلسطين حيث راجت الفصائل الفلسطينية تجمع السلاح ومعه النقود، ومع هذا وذاك اتهامات شتي بالخيانة والعار وأجواء تحلل القتل، وتروج للاقتتال، وتنشر الفتنة. آخر الجديد، وربما كانت النتيجة المنطقية، نوعية جديدة من التدخل الأجنبي القادم من قبل جيران أقوياء كان لهم تاريخيا أطماع كثيرة، ولكنهم مع حالة الفوضي أصبح لهم مصلحة مباشرة في إطفاء شرارة الفوضي قبل أن تصل عبر الحدود إلي ديارهم. وفي السبعينيات من القرن الماضي كانت سوريا هي أول من فتحت الأبواب عندما تدخلت في لبنان برعاية وموافقة من الجامعة العربية لضبط دولة استعصت علي الضبط. وكانت باكستان هي أول من تدخل في الشأن الأفغاني بالمخابرات وإنشاء جماعة طالبان، وحتي بعد أن سقطت طالبان ظلت إسلام أباد قاعدة الهجوم علي أفغانستان، ومكان الأمل في ضبط فوضي خرجت عن الحد حتي رغم وجود قوات حلف الأطلنطي. وبالطبع كانت إيران هي التي حاولت، ولا زالت تحاول ضبط الأمور في العراق، وأخيرا قامت أثيوبيا بالواجب ودخلت إلي الصومال لكي تخلصه وتخلص نفسها من فوضي هائلة. المشكلة مع ذلك كله أن الأطماع التاريخية لبلد الجوار كثيرا ما أضافت إلي نار الحريق في البلد المعني، فلم ينجح أحد في تحقيق استقرار في بلد انفلت عقاله. وعلي العكس فإن خطر الفوضي امتد إلي بلد الجوار نفسه، وأصبح ممكنا أن تتحول الحروب المحلية إلي حروب إقليمية. لقد قيل قديما إن اشتعال النار يأتي من مستصغر الشرر، فماذا يكون عليه الحال إذا لم يكن الموضوع متعلقا بالشرار وإنما بحرائق كاملة؟ المشكلة الأكبر من كل ذلك أن مصر، وهي الدولة التي لا تريد التدخل في شئون أحد أصبحت مجاورة لحرب أهلية علي وشك أن تندلع في فلسطين، وواحدة أخري محتملة في السودان. وحتي هذه اللحظة فإن الجهود المصرية منصبة علي تفادي حالة الفوضي في غزة من خلال التوفيق بين العناصر الفلسطينية، والعمل علي تحقيق السلام في السودان وتخفيف الضغوط الدولية علي الحكومة السودانية حتي تظل الدولة فاعلة. والسؤال الآن هو ماذا سوف تفعل مصر إذا فشلت هذه الجهود، وظهر أن قوي الفوضي أكبر وأكثر عنفوانا من قوي الاستقرار؟