تسود، في الأوساط اليسارية والعلمانية، فكرة تقول ان مد الحركة الإسلامية، الذي بدأ منذ هزيمة يونيو واستمر طوال الثلث الاخير من القرن العشرين الي الآن، ناتج عن فشل الحركات الأخري، من ليبرالية وقومية وماركسية، في تحقيق مهماتها، وأن صعود الإسلاميين هو مجرد ملء للفراغ. توحي المقولة المذكوة بأن المد الإسلامي لا يحوي مهمات برنامجية، وأنه مجرد حركة اعتراضية علي استبداد الحكام لا تقدم برنامجاً متكاملاً، كما "تقدمه" الحركات الليبرالية واليسارية عندما تكون في موقع المعارضة. لا تعالج هذه المقولة مسألة فشل الحركات الحديثة، الآتية الي المجتمعات المحلية من مصادر غربية والتي لم تتجاوز حالة الاتباعية الفكرية: لا يشمل ذلك العرب فقط، وإنما يشمل ايضاً روسيا القيصرية عندما لم تنجح فيها حركة ليبرالية حوت نوعاً من التبعية الفكرية السياسية للغرب الأوروبي (حزب الكاديت)، فيما فشل الاتجاه القومي في الصين لما وضع نفسه في تبعية للغرب ضد اليابانيين والشيوعيين المحليين (حزب الكيومنتانغ بزعامة شيانغ كاي شيك)، بينما نجح اليساريون الماركسيون في روسيا والصين وفيتنام لما مزجوا يساريتهم ونزعاتهم التحديثية مع النزعة القومية، وهو ما ينطبق علي حزب ليبرالي ناضل وقاد عملية استقلال الهند، هو حزب المؤتمر، هنا نجد كيف ان عالمنا العربي قد حوي حركات ليبرالية وماركسية كانت تابعة فكرياً وسياسياً لمركزين عالميين، أحدهما في الغرب الأوروبي والآخر في موسكو، تفارقت وتعارضت الأولي (الليبرالية) مع نزعات الاستقلال عن المركز الاستعماري الغربي، فيما عارضت الثانية (الماركسية) النزعة القومية العربية، وأحياناً سكتت عن المستعمر لما تلاقت موسكو مع الغرب الأوروبي ضد هتلر، ثم دخلت في سياسات مدمرة لذاتها لما تماشت مع قرار موسكو بتشجيع قيام دولة إسرائيل. فيما نجد من جهة أخري، أن فشل الحركة القومية العربية، بفرعيها الناصري والبعثي، لم يكن مقتصراً علي موضوع (إسرائيل) وإنما امتد الي موضوعات (الحداثة) و(التنمية) و(العدالة الاجتماعية)، علي ذلك كله، إن وصول الحركات المذكورة الي الطريق المسدود والفشل لم يكن ناتجاً عن أخطاء في التطبيق، وإنما يمتد الي أبعد من ذلك بكثير ليصل الي عيوب في التكوين (تثاقف مع أفكار خارجية اكثر منه حراك ذاتي اجتماعي افرز قوة سياسية)، ثم يمتد لفشل في تحويل هذا التثاقف الفكري السياسي مع الخارج الي قوة ذات تمثيل اجتماعي داخلي كبير، وصولاً لعدم قدرة المعنيين علي تهيئة الفكرة الوافدة في الثقافة المحلية، بعكس ما حصل في صين ماو تسي تونغ الماركسية، بينما نري، علي صعيد آخر، ان الحركة القومية العربية كان صعودها مرتبطاً بعملية رد الفعل العربية علي قيام دولة إسرائيل، وبعدم حل المسألة الزراعية، وبموضوع تحديث ورسملة البني الاقتصادية الاجتماعية الذي فشلت فيه الحركات الليبرالية لما كانت في السلطة، ليأتي فشل القوميين علي خلفية إخفاقهم في تحقيق ما أصعدتهم القوي الاجتماعية للسلطة من أجله. في هذا الصدد، يلاحظ ارتباط نشوء الحركة الإسلامية بحراك اجتماعي داخلي، واستنادها الي قاعدة ايديولوجية آتية من النبع الثقافي الذي كون الهوية الحضارية الثقافية للعرب، وهي عرفت مداً وجزرا بين العشرينيات والستينيات، إلا أن صعودها، بعد ذلك، لم يكن مرتكزاً اساساً علي فشل الآخرين، او علي عدم تحقق برامجهم، بل علي طبقات وفئات اجتماعية وسطي كانت متضررة من السياقات الاقتصادية الاجتماعية السياسية التي ولدتها سياسات انظمة الخمسينيات والستينيات، حيث كان بعض هذه الطبقات والفئات مدينياً في انظمة استندت الي قاعدة اجتماعية ريفية الاصل قدم الكثير منها الي الضواحي الفقيرة للمدن الكبري في مصر وتونس والجزائر، ويلاحظ الانخراط الكثيف لأغلب المنضوين بالحركات الإسلامية في العلم والتقنية والحياة الاقتصادية، وتأتي معارضة هؤلاء للأنظمة من شعورهم بأن من هو في السلطة لا يمثلهم اقتصادياً واجتماعياً، وبالتالي سياسياً، كما يلاحظ ترافق نمو الحركة الإسلامية، منذ السبعينيات، مع موجة عالمية برزت فيها كنيسة روما كلاعب سياسي عالمي، وصعدت فيها الأصولية الهندوسية للسلطة في نيودلهي، وتزامنه مع تديين واسع لعناوين السياسة العالمية، وبخاصة بعد (11 ستبمبر)، فيما نهض الإسلام الي الواجهة، كعنوان رئيسي يتصدر المجابهة الفلسطينية، والعربية، مع دولة إسرائيل، بعد مرحلة تصدرتها القومية العربية، ومن ثم بروز حركة فتح ذات الطابع الوطني الفلسطيني، والحركات اليسارية الماركسية الفلسطينية اثر هزيمة 1967. هذا يعني بأن المسألة ليست لملء الفراغ، او لتعيش علي فشل الآخرين، وإنما تعبيراً عن حراك اجتماعي جديد، ترجم نفسه في ثقافة وسياسة، وفي برنامج اقتصادي اجتماعي، وجد ذاته في موقع المتضرر من سياق السياسات القائمة للأنظمة علي الأصعدة المذكورة، ما جعله في موقع المعارض لها، فيما تفرض حركات متمسكة بالهويات المحلية نفسها في المجتمعات التي تشعر بالتهديد من قبل الخارج العالمي المهيمن، وهي كما عبر هنتغتون في كتابه "صدام الحضارات" "ليست رفضاً للحداثة، بل هي رفض للغرب وللثقافة العلمانية النسبية.... وهي إعلان استقلال ثقافي عن الغرب، إعلان كله كبرياء يقول (سنكون حديثيين، ولكننا لن نكون أنتم)".