تسود في بعض الأوساط السياسية والفكرية تفسيرات سطحية لظواهر سياسية واجتماعية معقدة، لكنها لكثرة تكرارها تغدو من المسلمات التي لا يجوز التشكيك بها، ومن تلك التفسيرات التي أصبحت من المسلمات، لاسيما في الساحة الأردنية وساحات أخرى مشابهة مثل اليمن ومصر وبعض دول الخليج، مقولة أن الصعود الحركي الإسلامي إنما يعود إلى تحالف جماعته أو جماعاته مع الدولة في مواجهة بعض القوى الأخرى، كما هو حال قوى اليسار والمنظمات الفلسطينية في الأردن، أو اليسار والقوميين في اليمن ومصر، ما يعني بالضرورة أنه ما إن ينتهي هذا التحالف، وهو انتهى بالفعل، حتى تعود الظاهرة القهقرى لتتراجع وربما تختفي كما وقع لظواهر سياسية واجتماعية أخرى من قبل.
سنركز في هذا التحليل بقدر ما على الأردن، وحيث تزداد مصداقية الرؤية المشار إليها تبعاً لما شهدته السنوات الأخيرة من تراجع في المد الإخواني، الأمر الذي بدا أكثر وضوحاً منذ مطلع التسعينيات، مع العلم أن منحنى العلاقة قد انقلب لصالح مسار التحجيم منذ مطلع النصف الثاني من الثمانينيات بعد أن تأكد المعنيون أن الواقع قد انجلى عن تسيّد الحركة الإسلامية للمشهد السياسي، وربما الاجتماعي أيضاً.
على أن مزيداً من التدقيق في المشهد السياسي ضمن رؤية شمولية للوضع العربي والإسلامي لابد سيفضي إلى طرح آخر يبدو أكثر عمقاً ومصداقية، وجوهر هذا الطرح هو أن الصعود الإخواني في الأردن كان نتاج ظروف موضوعية لا يمكن اختزالها في عامل واحد هو العلاقة مع الدولة، وهي ظروف تتعلق بالواقع العربي عموماً وحاجة الناس إلى مصدر إلهام أو ملاذ إثر هزيمة يونيو وسقوط أو تراجع المنظومات العلمانية والقومية واليسارية.
هناك أمثلة كثيرة تضرب ذلك التفسير الذي أشرنا إليه حول الصعود الإسلامي والتراجع القومي العلماني واليساري، ومن هذه الأمثلة سوريا، فقد كانت جماعة الإخوان هناك في وضع صاعد أكثر بكثير من إخوان الأردن خلال السبعينيات على رغم العلاقة المضطربة مع نظام الحكم، فيما كانت بعض الأطراف الأخرى متراجعة على رغم العلاقة الحسنة معها. صحيح أن وضع الإخوان في سوريا قد ضرب بعد الصدام المسلح مطلع الثمانينيات، لكن ذلك لا ينطبق على مسألة الحضور والشعبية، تلك التي لا تحسمها إلا صناديق الاقتراع، وإن بدت مؤشراتها واضحة لصالح الطرح الإسلامي. وفي العموم لا يبدو منطق الاجتثاث الأمني والعسكري قابلاً للقياس على الحالات الأخرى لما له من ظروف ومعطيات تتعلق بسلوك الطرفين من جهة، كما تتعلق بقدرة النظام الحاكم على تجاوز الخطوط الحمر في التعامل مع الحراك السياسي في المجتمع من جهة أخرى.
في مصر لم يصعد الإخوان أثناء حكم السادات بسبب المصالحة معه، بل لأن الظروف المحلية والإقليمية كانت تدفع في اتجاه الصعود، بدليل أنهم لم يتراجعوا بعد الصدام معه، ومن بعدها سنوات القمع في العهد التالي، وبالطبع رغم استمرار حل الجماعة ومطاردتها. في الجزائر كان النظام يسارياً إلى حد ما، لكن الإسلاميين صعدوا بسرعة مذهلة خلال النصف الثاني من الثمانينيات، وهم الآن قوة كبيرة في البرلمان من دون جبهة الإنقاذ، ولو عادت هذه الأخيرة بذات الصيغة لكان نصيبها كبيراً. وفي العراق انجلى المشهد عن حالة إسلامية صاعدة بعد الإطاحة بالنظام السابق رغم سنوات القمع والتغييب.
هناك موريتانيا، وهناك المغرب، كما في حالة العدل والإحسان على وجه الخصوص مع أن سياسة التحجيم (مع اختلاف الوتيرة) تشمل الآخرين أيضاً وعلى رأسهم حركة التوحيد والإصلاح التي انبثق عنها حزب العدالة والتنمية، وهناك ليبيا، وحتى تونس، وكلها تؤكد أن الحالة الإسلامية لم تتأثر كثيراً إلا بمستوى من القمع يتجاوز الحدود ويعسكّر المجتمع، لكنه تأثر سطحي أيضاً، إذ يعلم الجميع أن اللجوء إلى صناديق الاقتراع سيفرز مفاجآت كبيرة (المثال العراقي ونظيره المصري دليلان على ذلك).
هناك ما هو أهم وأكثر وضوحاً ممثلاً في حالة حماس، إذ منذ نهاية عام 1987 تاريخ تأسيس الحركة وهي تتعرض لضربات متوالية، لكن ذلك لم يزدها إلا قوة وحضوراً، فكيف لذلك التفسير أن يتعامل مع حالة من هذا النوع؟! الأهم من ذلك أن الظاهرة الإسلامية، والإخوانية جزء منها، لم تنل حظها من الشعبية بسبب التبعية لأي خطاب رسمي هنا أو هناك، بل العكس هو الذي وقع، إذ أن خطاب الرفض والتغيير هو الذي منحها القوة والحضور، وفي كل الدول العربية والإسلامية يزيد حضور الإسلاميين في الشارع كلما اقتربوا من هموم الناس وابتعدوا عن السياق الرسمي، ففي الجزائر تفوق الشيخ عبد الله جاب الله في الانتخابات الماضية على حركة مجتمع السلم المتحالفة مع الدولة وصاحبة التنظيم الأكبر، وبالطبع بسبب خطابه الأوضح في سياق المعارضة.
من المؤكد أن للسياسات الرسمية دورها في التأثير في الظواهر الاجتماعية والسياسية، لكن ذلك لا يحدث إلا تبعاً لتحولات وعوامل أخرى، ولو كانت تلك السياسات كافية لتفوقت أحزاب وتيارات إسلامية صنعت على عين السلطة في أكثر من دولة بهدف سرقة الجمهور من التيار المستهدف، مع ضرورة التذكير بأن النتائج تعتمد أيضاً على قدرات القيادة والكوادر في الجماعة أو التيار. وهذا البعد الأخير هو الذي يفسر التراجع الإخواني في الأردن خلال العقد الأخير من القرن العشرين وإلى الآن، إذ لم يكن الرد على سياسات التحجيم الرسمي ناجعاً، بل تواصل العمل بذات الروحية أيام التوافق، ومع ذلك فقد سجلت الظاهرة الإسلامية صعوداً كبيراً في المجتمع قياساً بما كان عليه الحال خلال الثمانينيات. وهي كما نعلم ظاهرة تشمل مجمل حالة التدين وإفرازاتها في المجتمع.
نعود إلى القول إن المنع أو القمع لا يشكل حلاً لمواجهة الظاهرة الإسلامية، اللهم إلا بوسائل عنيفة تترك آثارها على الدولة وعلى المجتمع برمته، ولا حل بناءً على ذلك سوى التعايش ضمن حد معقول من الحرية والتعددية، مع استعادة تدريجية للمرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع بصرف النظر عن الجهات الحاكمة، الأمر الذي يشكل في جوهره سبب نشوء الحركات الإسلامية في بلاد المسلمين.