أياً تكن صحة الأنباء الواردة بشأن الاتصالات السورية الإسرائيلية، والوثيقة التي انبثقت عنها، وهي صحيحة كما يبدو، أقله على المستوى غير الرسمي، فإن الموقف بين البلدين يبدو أكثر تعقيداً من أن تحله لقاءات عابرة هنا وهناك، تفضي إلى اقتراحات ووثائق على شاكلة وثيقة جنيف التي صاغها من الطرف الإسرائيلي أحد رموز اليسار (يوسي بيلين)، ومن الطرف الفلسطيني، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وزعيم ما يعرف بحزب فدا، وهو حزب هامشي في الساحة الفلسطينية (ياسر عبد ربه)، مع العلم أن الوثيقة المذكورة لم تدخل حيز التنفيذ، ليس لأن الفلسطينيين (أعني الطرف الرسمي) قد رفضوها، بل لأن الطرف الإسرائيلي قد تجاهلها، ولو وافق عليها لما رفضها ياسر عرفات في الظروف التي كان يعيشها إبان ظهورها في عام 2003، هو الذي كان يعيش أسوأ أنواع العزلة والحصار، مع العلم أن عبد ربه لم يذهب من تلقاء نفسه، وإن كانت له مغامرات شخصية أخرى، ولا تزال.
من الصعب على المراقب السياسي تصديق مقولة إن الدوائر الرسمية السورية والإسرائيلية لم تكن على علم بتلك الاتصالات، كما هي التصريحات التي وردت على لسان رسميين سوريين وإسرائيليين (أولمرت شخصياً)، ليس فقط لأن الأمريكيين كانوا على علم بها، وهؤلاء لا يخفون شيئاً عن تل أبيب، ولكن أيضاً لأن ما جرى قد تزامن مع جدل واسع حول الحوار مع سوريا لم يتوقف في الدوائر الإسرائيلية طيلة الشهور الماضية، فيما بدا الصوت الداعي إلى إيجاد مسار للتفاوض هو الأعلى بكل المقاييس، لاسيما بعد الهزيمة التي تلقتها الدولة العبرية على يد حزب الله في الجنوب اللبناني، وهي الهزيمة التي أطاحت برئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي دان حلوتس.
ثمة تفسير واحد لموافقة دمشق على هذا النوع من الاتصالات، بصرف النظر عن الموقف من الوثيقة، يتمثل في نواياها تخفيف الحصار من حولها في ضوء الوضع في العراق، وفي ضوء التأزيم القائم مع إيران، والذي لا يعرف إلى أي مدى سيصل خلال المرحلة المقبلة، والخلاصة أنها محاولة الخروج من محور الشر، فضلاً عن عدم الدخول في صراع مع الدول العربية "المعتدلة" التي كانت لسوريا معها تجارب معقولة في السابق، كما كان الحال قي سياق المحور الثلاثي السوري المصري السعودي خلال النصف الثاني من التسعينيات، وهو محور كانت له أهميته على صعيد التصدي لمرحلة الهرولة في السياسة العربية تجاه الدولة العبرية بعد اتفاقي أوسلو ووادي عربة. لكن ما شجع دمشق على خوض مغامرة الاتصال بالإسرائيليين دون الخوف من التداعيات إنما يتمثل في قناعتها بأنهم سيتكفلون بإفشال أي مقترح عملي للتسوية نظراً لارتفاع سقف مطالبهم.
هكذا يمكن القول إن نوايا تخفيف الحصار هي التي دفعت دمشق في اتجاه الحوار مع الإسرائيليين، لكن الحراك شيء، وتحقيق نتائج واقعية شيء آخر، وقد تابعنا شيئاً من ذلك إثر مشاركة سوريا في مؤتمر مدريد الذي عقد عام 91، وبعد ذلك قمة جنيف الأولى بين الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عام 94، ومن بعدها القمة الثانية بين الزعيمين عام 2000، وفي الحالتين قيل إن سوريا قد أضحت على مرمى شهور من توقيع تسوية مع الإسرائيليين متخلية بذلك عن شعارها الشهير (تلازم المسارات)، لكن الموقف لم ينج عن شيء عملي، إذ انفرطت اللعبة وبقيت الأوضاع رهينة مسارها التقليدي القائم على التأزيم والاتهامات المتبادلة بدعم الإرهاب، مع ما ينطوي عليه ذلك من تهديدات موجهة إلى سوريا من الطرفين الأمريكي والإسرائيلي، أو ذلك القائم على ما يشبه الحرب من خلال حزب الله في لبنان، ونتذكر هنا أن أسابيع هي التي فصلت انتصار الجنوب اللبناني عن اللقاء الثاني، فيما جاءت النهاية الشهيرة لمسار أوسلو في كامب ديفيد صيف عام 2000، أي بعد ستة شهور من القمة الثانية.
والحال أن حجم التعقيدات القائمة بين سوريا والدولة العبرية يبدو أكبر بكثير من أن يحل في لقاءات طويلة ومعلنة، فضلاً عن أن يحل من خلال لقاءات سرية وعابرة هنا وهناك، ليس فقط بسبب تعقيدات التسوية ذاتها من الناحية الجغرافية، وتفاصيل قضية الجولان وطبريا، بل أيضاً من خلال المسائل التالية التي لا تقل تعقيدا.
ما تريده الدولة العبرية من سوريا يتجاوز تلك التفاصيل المتعلقة بالجغرافيا، وحيث لايتوقع أن يبلغ الكرم الإسرائيلي حدود ما تطالب به دمشق، وستبقى تطالب به بحسب أرجح التوقعات، إذ أن الدور الإقليمي لسوريا يبدو مستهدفاً أيضاً، فهناك دورها في لبنان ومن ضمن ذلك التسوية اللبنانية، وهناك الدور العربي والإقليمي، وحيث سيطلب منها أن تغدو عراب تطبيع مع الدول العربية، الأمر الذي لا يتوقع أن تقبل به بحال من الأحوال.
سيضاف إلى ذلك بالتأكيد الملف الفلسطيني، وحيث لن تقبل دمشق بأي حال مبدأ التنازل عن صلتها بذلك الملف، أكان الأمر متعلقاً بقوى المقاومة الموجودة على أراضيها، أم تعلق، وهو الأهم، بحيثيات التسوية ذاتها على ذلك المسار، وهي تسوية لا تبدو في وارد التحرك في المدى القريب، أعني التحرك العملي، وليس مجرد وجود مفاوضات بهذا الشكل أو ذاك.
سيطلبون من سوريا أيضاً تعاوناً في الشأن العراقي، ليس فقط لأن ذلك شأن أمريكي بالغ الأهمية فقط، بل أيضاً لأن النجاح الأمريكي في العراق هو أكثر من ضرورة بالنسبة للإسرائيليين، وبالطبع من أجل إعادة تشكيل المنطقة على نحو يمرر هيمنتها عليها، وأقله من أجل تجاوز الفشل الذي سيؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة في المنطقة على نحو يضر بالمصالح الإسرائيلية.
لذلك كله لا يبدو أن ثمة أفقا حقيقيا لتسوية سياسية بين الإسرائيليين والسوريين، وكل ما هنالك أن بعض الباحثين عن أدوار لن يكفوا عن ترتيب اللقاءات واقتراح الوثائق، الأمر الذي لن يرفضه السوريون حتى لو أنكروه، تماماً كما فعل إيهود أولمرت.
بقي أن نقول إن من الأفضل لدمشق أن تقوي موقفها الداخلي، إلى جانب التكتيك السياسي الذي يستهدف تخفيف الضغوط، ولن يتم ذلك من دون إفساح المجال لقوى المعارضة الوطنية، ومن ضمنها الإخوان المسلمون، كي يعبروا عن أنفسهم، فمن دون داخل متماسك سيكون من الصعب مواجهة مؤامرات الخارج.