عندما فكرت في مخاطبة العلمانيين العرب والمصريين خاصة تبادر إلى ذهني عدة خواطر سريعة أحب أن أتقدم بها بين يدي رسالتي إليهم: أولا : أهمية الحوار على كافة الأصعدة داخل الوطن الواحد بين كل الفرقاء فهو يتيح التعرف عن قرب على أفكار الأطراف المختلفة وقد يؤدي إلى الاتفاق على قواسم مشتركة تنقلنا إلى عمل مشترك. وهنا ألفت النظر إلى أنني أدرت عام 1984 ندوة هامة وحظيت بإقبال شعبي كبير في "دار الحكمة" بنقابة الأطباء تحت عنوان "الإسلام في مواجهة العلمانية" دعي إليها وقتها الشيخان المرحوم محمد الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله ومن الطرف الآخر دعي الدكتور فؤاد زكريا متعه الله بالصحة والمرحوم فرج فودة الذي امتنع عن المشاركة. وقد طبعت في كتاب ونسخت على أشرطة كاسيت وفيديو وقتها. ثانيا : أنني أقتطع هذا الوقت للكتابة من بين ورشة عمل الآن لمدة أربعة أيام (6 9/2/2006) بمقر لمنظمة الصحة العالمية الإقليمي بمصر وتنظمها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية حول "الوراثة والتكاثر البشري بين رؤية الأديان السماوية ورؤية العلمانية" ويشارك فيها علماء دين مسلمون ورجال دين مسيحيون ويهود وأطباء من بلاد مختلفة وخلفيات فكرية متنوعة لمناقشة موضوع عام يرتبط بالتطور العلمي ودور الأخلاق والقيم في ضبط التجارب في مجال الوراثة والاستنساخ ومدى اختلاف منظور الدين ومنظور الفكر العلماني حول هذه المسألة الخطيرة. إذن هناك ارتباط ذهني أن الدين في مواجهة العلمانية. فهل هذا هو الواقع في مصر والوطن العربي كما هو في الغرب؟ وهل المدى الذي وصل إليه فصل الدين عن العلم أو عن الخلق أو عن القانون فضلا عن الدولة هو ما يمكن أن يصل إليه العلمانيون العرب وفي مصر التي عرفت الدين منذ عصور الفراعنة. ثالثا : عندما فازت حركة "حماس" المقاومة الإسلامية بالأغلبية في الانتخابات الفلسطينية التشريعية الأخيرة وقبلها في المحليات والبلديات كانت أكثر التعليقات خاصة في الغرب تصف الفوز أنه على حركة "فتح" العلمانية، فما معنى وصف "فتح" بالعلمانية؟ وهل ذلك صحيح وقد نشأت فتح من قبل من أفراد ينتمون في بواكير حياتهم إلى "الإخوان المسلمين" وهل يمكن وصف أحزاب مصرية "الوطني" "الوفد" مثلا بالعلمانية كما يتردد في الصحف الغربية وتنقلها عنها الصحف المصرية والعربية وأنا أرى في حياتي كثيرين متدينين في أوساط الحزبيين، وكانت ملاحظتي عندما شاركت في مؤتمر حزب "التجمع" اليساري ذي الجذور الماركسية قبل سنة تقريبا ولاحظت ارتفاع نسبة المحجبات وعندما أبديت ملاحظتي قال لي الأستاذ حسين عبد الرازق أن نسبة المواظبين على أداء الصلاة من المنتسبين للحزب أزداد بدرجة كبيرة جدا ،وقبلها بسنوات كتب الصديق الدكتور رفعت سد أحمد في "أخبار اليوم" عن "الناصرية الإسلامية" ثم حرر الصديق الدكتور عبد الحليم قنديل وآخرون سفرا ضخما حول "الناصرية والإسلام" فهل يمكن اعتبار هؤلاء رغم انتسابهم إلى أحزاب "علمانية" بأنهم علمانيون أي لا دينيون بالمعنى المتبادر إلى الذهن نقلا عن التجربة الأوروبية؟!! وهنا نجد تصنيفا آخر يضع الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية أو الدينية في مواجهة الأحزاب السياسية الأخرى التي لا تستند إلى تلك المرجعية في مواجهة علماني /إسلامي أخرى تعتمد على الموقف السياسي وليس الديني ، فالإسلاميون يعتمدون مرجعية دينية تتخلخل في شئون الحياة العامة وتنظم حياة الناس بقواعد عامة تستند إلى الشريعة بينما الآخرون يعتمدون مذاهب فكرية وضعية من صنع البشر غالبيتها مستوردة أو معدلة عن الغرب مثل : الفكرة القومية أو الاشتراكية أو الماركسية أو الليبرالية وهي في بلادنا تحصر الدين في الشأن الشخصي الفردي فقط أو على الأكثر في الشأن الأسري يضم الزواج والطلاق والميراث إلى الشأن الشخصي. بينما نجد أن كل الأحزاب في الغرب لا تعتمد مثل ذلك التقسيم حتى مع تسمية بعضها بالمسيحية حيث أن المسيحية لا تعرف شريعة عامة تنظم الحياة وهنا ينصرف الوصف الديني إلى سياسات محافظة فقط تستلهم رؤية الكنيسة الكاثوليكية المحافظة في مجال الحق في الحياة ضد الإجهاض والتحفظ تجاه الشواذ وغيرها من القضايا الاجتماعية. **** كيف نعرف العلمانية في بلادنا؟ ومن هم العلمانيون في مصر؟ سؤالان يصعب الإجابة عليهما ، وهما من الأهمية بمكان إذا أردنا أن نوجه إليهم رسالة واضحة. ينكر العلمانيون المصريون أنهم ضد الدين ودوره في الحياة حتى غلاه الماركسيين، ولكن الأكثرية منهم تبدي رفضا لتدخل الدين في الشأن العام أو تحفظا قويا على ذلك الأمر أو خشية من فرض رؤية واحدة للفهم الإسلامي للنصوص على بقية الناس. لقد نادى البعض الآن في كتابات متكررة بمصطلح "العلمانية المؤمنة" ويدللون على ذلك بما حدث بتركيا التي ينص دستورها على علمانية الدولة على عكس دساتير الدول العربية في غالبيتها التي تنص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام حتى في الدول التي حكمها أحزاب بعثية مغرقة في العلمانية وهنا اتساءل بالمناسبة إذا كان النص في دستور تركيا على العلمانية (وكذلك في فرنسا) محبذا ومحل تقدير لدى البعض فلماذا ينكرون على واضعي دساتير أخرى النص المقابل؟!! أنا أعتقد أن هناك أسبابا أدت إلى هذا الالتباس في فهم مسألة "العلمانية" ولا أريد أن أحيل القارئ إلى الخلفيات الفلسفية التي شرحها الدكتور عبد الوهاب المسيري في سفرية حول العلمانية الكاملة والعلمانية الجزئية. جوهر المسألة في نظري أن العقل المصري والعربي والمسلم عندما صدمته الحضارة الغربية "اليهودية والمسيحية" في جذورها أرتبك ارتباكا شديدا في مواجهتها وانقسم إلى طائفتين كبيرتين تحملان تنوعا داخليا ضخما وكان الفرز حول الإجابة عن سؤال : على أي أساس نقيم نهضة تستطيع مواجهة التحدي الاستعماري؟ كان جواب أغلبية المبهورين بالتجربة الغربية وعلى مذهب ابن خلدون في تقليد المهزوم للغالب أننا لابد أن نقيم نهضتنا المرتقبة على تقاليد الغرب في كل شيء دون أي حساسية وأن الإصلاح الديني يجب أن يصل إلى الحدود التي وصل إليها الغرب في الفصل التام بين الدين والشأن العام وحصر الدين في شأن شخصي محدد جدا. تصدي لذلك المفهوم الذي ساد مع بواكير القرن العشرين قلة قليلة من المفكرين والعلماء وكان أكثرهم تأثيرا من جاء من خارج المؤسسة الدينية التقليدية ومن العجيب أن تلامذة الشيخ الأمام محمدعبده المصلح الديني كانوا من أبرز دعاة العلمانية السياسية ولعل ذلك هو الذي صبغ سياسي مصر منذ ذلك الوقت بطابع ديني رغم وقوفهم في مربع " العلمانية ". تبلور الرد الشعبي على النزعة العلمانية الليبرالية مع النصف الأول من القرن العشرين ثم الاشتراكية القومية من النصف الثاني مؤخرا في الحركة الإسلامية التي تعرضت في الحالتين لاضطهاد كبير وإن كان على يد النظم الثورية الاشتراكية والقومية بصورة أعنف. لم يثر السؤال حول العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين طوال تلك الفترة ولم يجر حوار جاد الحوار كان مهمة الأجهزة الأمنية التي تولت الشأن الإسلامي. الدافع الآن للحوار والنقاش ومحاولة بلورة تصور مشترك للخروج من المأزق المصري والعربي هو : الفشل الذي وصلت إليه تجربة الدولة العلمانية في مصر في العالمين العربي والإسلامي ربما أدي إلى دعوة الاحتلال من جديد وهيمنة الصهاينة والأمريكيين على المنطقة وثرواتها. يقوي هذا الدافع بتصاعد المد الإسلامي بقوة وحلوله في انتخابات حرة ونزيهة في الصدارة. والأسئلة الحائرة ما زالت كما هي : ما هو مفهوم الدين الإسلامي ؟ ما هي حدود تدخل الدين الإسلامي في الشأن العام ؟ هل يمكن لشخص واحد أن يفرض فهمه على الآخرين ؟ أو بمعني صريح ما هي حدود حرية الاختلاف في الإطار الديني ؟ ما هو موقف الإسلام من الحريات الشخصية والحريات العامة ؟ وهل يمكن تصور تطبيق إسلامي معاصر خاصة في مجال العقوبات ؟ ما هي الحدود التي يفرضها الانتماء إلى عالم واحد علماني بطبيعته شرقا وغربا في التعامل مع هذا العالم ؟ وهل سيتم عزل أي دولة تطبق النظام الإسلامي بما يعنيه ذلك من آثار سلبية خطيرة؟ وهل نحن بحاجة الآن ونحن لم نحسم حوارنا الداخلي إلى فتح حوار إسلامي علماني على المستوي العالمي ؟ خاصة وقد فرض نفسه علينا مع أزمة الرسوم الكرتونية " الكاريكاتيرية " الدنماركية ؟!! أسئلة كثيرة حائرة منذ مطلع القرن الماضي تفاوتت الإجابة عليها ولكن الوضع الحالي يلقي بأثقاله علينا وتتعاظم الحاجة إلى اجتهاد جديد وتجديد مستمر وإصلاح بنية العقل المسلم وإعادة الاعتبار إلى علوم شرعية نقليه وعقلية لإخراجها من التقليد إلى التجديد وإعادة الاعتبار إلى فرضية الاجتهاد في الإسلام من منطلقات إسلامية ذاتية وليس كرد فعل فقط أو من نفسية مهزومة إزاء الغرب المنتصر. لذلك أوجه رسالتي إلى الإخوة العلمانيين في مصر والوطن العربي : تصالحوا مع الدين : إسلاميا أو مسيحيا أو حتى يهوديا فهو طاقة روحية هائلة وطاقة تحرر وإبداع. حولوا طاقة التدين عند الشعوب إلى طاقة عمل وإنتاج . تعرفوا على المفاهيم الإسلامية المعتدلة ولا تحشروا كل الإسلاميين في سلة واحدة ولا تنجرفوا مع المفاهيم الغربية عن الإسلام. أفصموا علاقة التبعية بالفكر الغربي لا مانع من الاستفادة والتفاعل مع الغرب : فكرا وثقافة وحضارة وعلما وتكنولوجيا ولكن من موقع مستقل وليس تابعا. ولا تقفوا في وجه الديمقراطية بحجة أنها ستؤدي إلى فوز الإسلاميين فهذا تناقض شديد يؤدي إلى خسارة الجميع. كونوا مع الحرية للجميع مع ضمانات حقيقية جادة عبر الحوار المتصل أن تبقي راية الحرية ودعائم الديمقراطية مستمرة. لا تساندوا نظما استبدادية ثبت فسادها وفشلها وديكتاتوريتها خشية تحولات قد تكون على نفس النمط ، فالخطر القائم الحالي يجب مواجهته قبل أن نتحسب لمخاطر قادمة الله أعلم هل تقع أم لا ؟ كونوا في خندق المقاومة والتصدي والصمود في وجه الهجمة الصهيونية والأمريكية والتي تسكت عنها أوروبا حينا وتساندها أحيانا وبداية المقاومة هي في العقل والفكر والوجدان ، فالمهزوم فكريا لا يستطيع أن يقاوم. شاركوا في حوارات متصلة وجادة ومنتجة تؤدي إلى بلورة القواسم المشتركة التي تدفع الجميع إلى عمل وتنسيق للجمهور ، لا تضعوا العصي في دولايب الحركة والعمل والمشترك بين الإسلاميين غيرهم وها نحن نري حماس في فلسطين كيف تدعو فتح إلى المشاركة وهي التي تتمنع بعد أن انفردت بالقضية والقرار أربعين سنة عجاف أدت إلى ما نراه الآن من ابتلاع الأرض والثروات انتهاك المقدسات وتهديد الأقصى وحرمان الشعب الفلسطيني من أبسط حقوقه وهو ما تصنعه الأنظمة العربية العلمانية التي يساندها بعض العلمانيين بشعوبها. اعملوا على نهضة حقيقية تقوم على الطاقة الإيمانية والعلم الدؤوب والتقنية والتكنولوجيا الحديثة نهضة عربية إسلامية قادرة على وضع العرب والمسلمين في مصاف الأمم الحديثة فنستطيع إجراء حوارات عالمية من موقع المساواة وليس من موقع التبعية.