يحاول البعض اختزال الحديث عن بعض القضايا بشكل شخصي، وكأنهم أصحاب الحقيقة المطلقة دون النظر إلي وجود وجهات نظر أخري. ومن أمثلة تلك القضايا الشائكة، قضية "المسيحية الصهيونية". وسواء اتفقنا أو اختلفنا حول كونها "مسيحية صهيونية" أو "جماعات مسيحية سياسية داعمة للصهيونية".. فهي في نهاية المطاف تعبر عن مضمون واحد. والطريف في الأمر، ما كتبه البعض من أن "المسيحية الصهيونية" ما هي إلا خيال تآمري عند المفكرين العرب بوجه عام والمصريين بوجه خاص. وهو ما جعل "المسيحية الصهيونية" من أكثر المفاهيم جدلاً في الفترة الأخيرة، ليس فقط لكونها مرتبطة بالصراع العربي الصهيوني من جانب، بل - أيضاً _ لما تحمله من دلالة تأثيرها في صنع السياسة الأمريكية والتأثير فيها وعليها سواء داخلياً أو خارجياً من جانب آخر، وهو ما تجلي بوضوح في ظل الإدارة الأمريكية الحالية. وفي ظني أن التعرض للمسيحية الصهيونية.. هو بمثابة استعراض لتاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية ونشأتها منذ ما يقرب من خمسة قرون عندما بدأت حركة المهاجرين الجدد من إنجلترا إلي أمريكا، وكانوا من البروتستانت أصحاب الميول اليهودية بأبعادها السياسية والعقائدية نتيجة تأثرهم المباشر بتعاليم كالفن أحد كبار منظري المذهب البروتستانتي بعد مارتن لوثر. ومن الملاحظ أنهم منذ البداية قد أطلقوا علي القارة الجديدة المكتشفة بعض التعبيرات التي تدل علي شدة التأثير اليهودي في أفكارهم المسيحية بعد فرارهم من الملك جيمس الأول ملك إنجلترا، وعلي سبيل المثال: أرض الموعد والأرض الجديدة وكنعان الجديدة.. في إشارة إلي (القدسالجديدة). وهم هنا يضعون أنفسهم في مكانة العبرانيين الذين فروا من أرض مصر بسبب عبودية فرعون. ثم تحولت نظرتهم الأصولية - بعد متغيرات عديدة - فيما بعد إلي الشرق نحو أرض فلسطين. ونستطيع رصد ملامح بدايات التحالف الوطيد بين الأصولية الأمريكية (اليمين المسيحي) وبين اليهودية كفكرة تطمح في تأسيس دولة. وهي المسيرة التي نحصد ثمارها الآن. ويمكن أن نتوقف هنا عند بدايات القرن الثامن عشر.. حينما بدأ اللاهوت البروتستانتي الأمريكي في تبني دعوة ضرورة البعث اليهودي من خلال الإحياء القومي للشعب اليهودي، وهو التعاطف الذي تحول فيما بعد إلي شكل من أشكال الضغط السياسي لإقامة وطن يهودي. وعلي سبيل المثال لا الحصر: نجد وردر جريسون الذي قام بإنشاء مستوطنة زراعية يهودية لتدريب المهاجرين اليهود علي شؤون الزراعة والإنتاج الزراعي، ثم كان القس بلاكستون الذي قام بتأسيس منظمة (البعثة العبرية من أجل إسرائيل)، والتي ما تزال مستمرة إلي الآن باسم جديد هو (الزمالة اليسوعية الأمريكية). ولهذا القس يعود الفضل حينذاك في موافقة الرئيس الأمريكي والكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب علي إقامة وطن يهودي في فلسطين. بالإضافة إلي القس جوزيف سميث (مؤسس المورمونية) الذي تبني نظرية البعث اليهودي في فلسطين. علي هذا النحو، اتحد الديني (المقدس) بالسياسي (المتغير)، وكانت النتيجة هو تدعيم عودة اليهود كشعب إلي أرض الموعد في فلسطين قبل تأسيس الدولة الصهيونية.. تمهيداً للعودة الثانية للمسيح وحكمه الألفي للأرض من خلال عاصمة الحكم أورشليم، وهي الأفكار التي تدعمها بعض الطوائف التي تطلق علي نفسها مسيحية، وعلي سبيل المثال: شهود يهوه والأدفنتست والمورمون. ومن الملاحظ في مسيرة المسيحية الصهيونية، أنه قد تم (صهينة) الاتجاهات الأصولية في أمريكا و(عبرنة) المسيحية بشكل مؤسسي منظم.. يقوم علي الترويج لأفكار التراث المسيحي اليهودي المشترك، والأخلاق المسيحية اليهودية، والالتزام الأدبي _ الأخلاقي بدعم إسرائيل، مما ترتب عليه هيمنة الاتجاه الأصولي علي البروتستانتية الأمريكية كامتداد طبيعي لليمين المسيحي بشكل جديد ومتطور. وقد أكتسب هذا اليمين طبيعة سياسية حيث ربط بين نهوض أمريكا ودورها المركزي، وبين استعادتها لتراثها اليهودي المسيحي. ويعد عام 1942 نقطة تحول مهمة في تاريخ الأصولية البروتستانتية حيث شهد هذا العام تأسيس الرابطة الإنجيلية التي تضم تحت مظلتها آلاف الكنائس الأصولية في أمريكا. وهو ما أدي إلي تحول الحركة الأصولية البروتستانتية إلي نظام مؤسسي، وبالتالي، التحول إلي القيام بدور سياسي. وهو ما جعلهم يمتلكوا القدرة علي التأثير والضغط علي السلطتين التشريعية والتنفيذية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، والانخراط في شبكة من العلاقات مع السياسيين والاقتصاديين، والعمل علي إتاحة الفرصة لتكوين كيانات مماثلة لهذا الاتحاد. ومنذ عام 1970 استطاعت الأصولية البروتستانتية لعب دور مؤثر في السياسة الأمريكية بداية من إعادة طرح مفاهيم قديمة طرحتها من قبل.. بصيغة حديثة، ومروراً بالتدخل في السياسة الخارجية، وصولاً إلي توجيه الناخبين في اختيار الرئيس الأمريكي. ومثال ذلك (دليل الناخبين) الذي تصدره لتوضيح رأي اليمين المسيحي تجاه قضايا أخلاقية واجتماعية محددة (منها: الإجهاض والتعليم..). وقد طوعت في سبيل ذلك كل الوسائل بهدف تغيير المجتمع الأمريكي جذرياً سواء عن طريق العديد من الصحف والمجلات، أو البرامج التليفزيونية، أو عن طريق مكاتبها التي تضم العديد من المتخصصين في شتي المجالات والمنتشرة في كافة أرجاء الولاياتالأمريكية لتقديم رؤية دينية لا تنفصل عن واقع المجتمع الأمريكي واحتياجاته. ونذكر _ أيضاً _ أنه منذ وصول الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان للرئاسة الأمريكية؛ صارت الحركة الأصولية جزءاً مهماً في النظام الأمريكي بأعلي مستوياته، وإلي الآن. كما صار لها العديد من المنظمات التي صارت لها وزن في السياسة الأمريكية، منها: منظمة الائتلاف المسيحي، ومنظمة الأغلبية الأخلاقية، ومجلس بحوث الأسرة. وهكذا حدث التلاقي في المصالح من خلال التحالف بين اليمين المسيحي (الأصولية البروتستانتية) وبين الحركة الصهيونية للتأثير من أجل تحقيق تغيير اجتماعي في بنية المجتمع الأمريكي، ومن ثم التأثير علي التشريعات والسياسات الحكومية من خلال آلية عملهم التي تكون بمثابة عمل الجماعات الوظيفية. ولا ننسي ما حدث بالأمس القريب والدور الذي قام به هذا التحالف في إصدار قانون الحريات الدينية. وبالطبع ليس من الغريب أن يكون التصويت السياسي ضد المصالح الإسرائيلية في الولاياتالمتحدةالأمريكية بمثابة انتحار سياسي. كما أنه ليس من الغريب - أيضاً - أن تقوم الولاياتالمتحدةالأمريكية بالترويج لقيم الديمقراطية والتعددية والتأكيد علي تنفيذ مواثيق حقوق الإنسان، في الوقت نفسه الذي لا تستطيع تحديد ماهية العدل في حسم الصراع العربي الصهيوني. لقد زاد الجدل حول وجود "المسيحية الصهيونية" من عدمه، والمشكلة هنا ليست في يقين الإجابة عن السؤال بقدر ما تكمن في ماهية طرح السؤال؟!!. إن طرح السؤال بهذا الشكل.. يؤكد علي مدي الالتباس في نفي الثوابت علي اعتبار إنها درب من الوهم والخيال. [email protected]