قلنا في الأسبوع الماضي ان مصر تحتاج مراجعة سياستها الخارجية حتي تتماشي مع التغيرات في البيئة العالمية والتغيير الذي جري في مصر خلال الربع قرن الأخير انطلاقا من تعريف للمصالح المصرية يرتكز في أوله وآخره علي تشكيل البيئة الخارجية بحيث تكون ملائمة لعملية التنمية. وانطلاقا من ذلك فإنه يصبح علي مصر أن تضع مجموعة من السياسات علي الوجه التالي: أولا، لا ينبغي لمصر أبدا أن تحيد عن الهدف الرئيسي أبدا وهو زيادة معدلات النمو المصرية إلي حدود قصوي مثل تلك التي بلغتها الصين (13%) في بعض الأوقات، وتلك التي بلغتها اليابان خلال الخمسينيات (16%) وتلك التي بلغتها دول أسيوية مثل سنغافورة وتايوان وماليزيا والهند(8-9%). وهنا فإن مهمة الرسالة الخارجية هي أن مصر دولة تنموية ساعية إلي تحرير سكانها من الفقر، ولديها من الإمكانيات مساحة وبشرا وجغرافيا وتاريخ ما يجعلها واحدة من الدول المتقدمة في العالم. وببساطة فإنه علي مصر أن تفعل ما تفعله الصين والهند الآن وهو أن السعداء في العالم هم الذين يقبلون علي مصر للسياحة والتجارة والاستثمار. فمصر ليست هي الدولة التي تقوم سياستها الخارجية للتعامل مع أوضاع جيو-سياسية صعبة(فلسطين)، وإنما دولة ساعية لتعظيم أوضاع جيو- اقتصادية هامة. وثانيا، إعادة تنظيم مؤسسات السياسية الخارجية لكي تتواءم مع التغير في الرسالة المصرية الخارجية بحيث يتم تغليب النوع علي الكم بالنسبة للتمثيل المصري الدبلوماسي والإعلامي الخارجي. وفي الوقت الراهن فإنه يوجد لدي مصر تمثيل دبلوماسي وإعلامي مع دول لا توجد لنا فيها مصالح، وبعضها ليس متوقعا نمو هذه المصالح علي المدي القريب. ولذا فإن مصر تحتاج إلي إنقاص عدد السفارات والبعثات الدبلوماسية المصرية، مع زيادة حجم السفارات والبعثات حيث تزيد المصلحة المصرية أو يتوقع ازديادها في المستقبل القريب أي خلال السنوات الخمس المقبلة. وثالثا، بعث مجلس الأمن القومي الذي ينص عليه الدستور من سباته يكون معاونا لرئيس الجمهورية للتنسيق بين الأجزاء المختلفة للسياسة الخارجية المصرية ويجعلها متناغمة طوال الوقت مع الهدف القومي الأساسي. وكما كان جاريا في مطلع السبعينيات يجري تعيين مستشار للأمن القومي يقوم بهذه المهمة، بمعني آخر تقوية دور مؤسسة الرئاسة في صياغة السياسة الخارجية من خلال عملية مؤسسية لصناعة القرار والسياسات المتنوعة. ورابعا، تعليم الشعب المصري هذا التغير في التوجه العام للسياسة الخارجية، وكما نجحت مصر الناصرية في طرح نظرية الدوائر الثلاث _ العربية والإفريقية والإسلامية _ باعتبارها ثوابت السياسة الخارجية، فإنه ينبغي جعل التنمية والاستقرار والسلام هم ثلاثية العمل في الخارج المصري خلال المرحلة المقبلة. إن هذه المهمة لها شقان، فهي تغير من توقعات الشعب المصري إزاء الأحداث التي تجري في منطقتنا من ناحية، ومن ناحية أخري سوف تؤثر في البيئة الإقليمية والعالمية لمصر لأنها سوف ترسل رسالة إلي العالم أننا بتنا علي استعداد للتحول من سياسة تقوم علي الجغرافيا السياسية إلي سياسة تقوم علي الجغرافيا الاقتصادية. وخامسا، الاشتباك _ ENGAGE MENT- مع الأطراف الخارجية الهامة لمصر، بمعني أن سياسة مصر الخارجية لا ينبغي لها أن تكون سياسة احتجاجية مستندة إلي المواقف والتصريحات والإعلانات، وإنما تكون سياسة قائمة علي المشاركة في حل المشكلات الإقليمية والعالمية. وببساطة فإن إتباع سياسة قائمة علي اللوم والاتهام الأخلاقي- المعايير المزدوجة- لم تكن أبدا سياسة فاعلة، أو إتباع سياسة قائمة علي مبادرات كبري _ المؤتمر الدولي للإرهاب أو إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل- لم تكن مؤثرة ما لم يعقبها تحرك دبلوماسي وسياسي واسع تقوم به كافة المؤسسات المصرية الرسمية والشعبية أيضا. وسادسا، إدارة العلاقات مع الدائرتين الأوروبية والأمريكية بطريقة مختلفة عما هو حادث الآن، فلا ينبغي خلط الإستراتيجية بالتاريخ حيث توجد التمنيات التي تجعل أوروبا نقيضا حاليا أو مستقبليا للولايات المتحدة، فالحقيقة أن كليهما متشابكان الآن وفي المستقبل المنظور، وما يهم مصر هو أن تكون علاقاتها عبر المتوسط وعبر المحيط الأطلنطي مساهمة في زيادة المعونات والتجارة والاستثمارات بشكل ملموس عما هو الآن. ولن يكون ذلك ممكنا ما لم تتغير اللهجة المصرية الداخلية والخارجية التي تلحق أوروبا _ التي نريد التعاون معها _ مع الاستعمار القديم، والولايات المتحدة -التي نريد سوقها واستثماراتها وضغطها علي إسرائيل- بالصراع العربي _ الإسرائيلي المعقد. لقد آن الأوان لكي نجعل الجغرافيا الاقتصادية هي التي تقود علاقتنا المعلنة مع الطرفين بحيث نستفيد من المثال التركي علي رغم وجود مشكلات تاريخية وجيوبولوتيكية هامة _ التناقض مع اليونان ومشكلة قبرص- فإنها نجحت في أن تجعل نفسها جزءا من الحركة الغربية إزاء الصراعات، بل وجزءا من حركة التكامل والوحدة الأوروبية. وربما آن الأوان لكي نشرح للشعب المصري ما فعلته المعونات والاستثمارات الأوروبية والأمريكية في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية، وفي الوقت نفسه نعمق شبكة العلاقات الرسمية والشعبية معهما بحيث نتجاوز الآثار المدمرة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر _ ولندن ومدريد- إلي موقف أخلاقي واستراتيجي من الحرب علي الإرهاب في المنطقة وفي العالم. وسابعا، تحتاج مصر إلي التركيز في علاقاتها الإقليمية، بمعني أنه ليس كل دول المنطقة متساوية في أوزانها، وسوف يكون مفيدا لمصر أن تعطي أهمية خاصة للسعودية وتركيا وإسرائيل وإيران والمغرب بحيث تحقق اشتباكا متكاملا من علاقات متعددة تقوم علي آليات مستمرة للتشاور السياسي، والحركة الاقتصادية، وتحركات المجتمع المدني والأحزاب السياسية. وببساطة فإننا نحتاج إلي أنواع مختلفة من التفاهمات الإستراتيجية مع هذه الدول سواء ما تعلق منها بفلسطين أو العراق أو الإرهاب أو سائر القضايا الإقليمية الأخري. ولا يعني ذلك التوافق مع هذه الدول وإنما يعني التركيز عليها ومتابعتها وخلق قنوات مستمرة معها لمحاولة تجنب الأزمات والتعامل معها إذا نشبت أو التعرف علي نوايا الأطراف _ الرئيسية _ الأخري في كل الأوقات. ومن المهم في كل لحظة الاستفادة من الوقت المتاح لرئيس الجمهورية بحيث يكون أكثر فاعلية للتعامل مع دول مؤثرة في التركيبة الإقليمية، بهدف مستقبلي يقوم علي وضع إطار واسع للتعاون الإقتصادي والأمني الإقليمي. وثامنا، إن التركيز علي العلاقات مع الدول الرئيسية في الإقليم سوف يقتضي تعاملا مختلفا مع الجامعة العربية بحيث تقوم الجامعة بالتأكيد علي الرابطة الحقيقية حتي الآن بين الدول العربية وهي الرابطة الثقافية التي تتدعم بفعل وسائل الإعلام والتطورات التكنولوجية المختلفة. ولكن من الناحية السياسية والإستراتيجية فلا بد أن نعطي أوزانا غير متساوية للدول العربية بحيث نغلب ونكثف العلاقات مع تلك الدول التي تتصاعد علاقاتها التجارية والاستثمارية مع مصر وهو ما سيعطي دول الخليج العربية وفي المقدمة منها السعودية ثقلا خاصا في السياسة الخارجية المصرية. وتاسعا، علي مصر أن تشكل سياسة خاصة للدول العربية المعرضة للانقسام والتقسيم والحرب الأهلية خلال المرحلة المقبلة، فقد بات من المؤكد أن السودان والعراق والصومال سوف تتعرض للتقسيم، ولذلك يوصي بضرورة التحضير لذلك من الآن بحيث يتم حماية المصريين في هذه الدول، وفتح القنوات مع جميع الأطراف المتصارعة، ووضع حالة هذه الدول علي مائدة التفاهمات الإستراتيجية مع الدول الإقليمية والدولية الرئيسية، والبحث عن وسائل للتخفيف من أثر انفجار هذه الدول علي الصورة المأخوذة عن مصر في العالم باعتبارها جزءا من المنطقة. وعاشرا، هناك فرصة جيدة لمصر من خلال " مجموعة أغادير" التي تجمع بين الدول العربية الموقعة علي اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي- مصر والأردن وتونس والمغرب والجزائر- في أن تتعاون سويا وفق المعايير التي قبلتها مع الاتحاد الأوروبي. هذه المجموعة يمكن فتحها للدول العربية التي تقبل بتطبيق هذه المعايير. وحادي عشر، إن السلام العربي _ الإسرائيلي جزء من مناخ الاستقرار المطلوب في الوضع الإقليمي المصري، ولكن هذا السلام لا ينبغي له أن يكون رهينة قبول أو عدم قبول جماعات متطرفة تناصب مصر العداء، بل أن جماعات علي شاكلتها تقوم بتهديد الأمن المصري مباشرة. ولذلك فإن علي مصر أن تقوم بهجوم جديد للسلام _ بالتفاهم والتحاور مع الأطراف الإقليمية والدولية الأخري- يقوم علي المزج بين مبادرة جنيف والمبادرة العربية والبحث عن ترتيبات إقليمية للتعاون الاقتصادي والأمني. وثاني عشر، لا ينبغي لمصر أن تعطي فرصة أو ميزة إستراتيجية لأي من الجماعات الأصولية والراديكالية مهما كانت المعركة التي تشتبك فيها مع الغرب أو مع إسرائيل أو مع أي من دول المنطقة الأخري. ولذلك فإن السياسة الخارجية المصرية عليها أن تصيغ رسالة معتدلة وعصرية للإسلام مماثلة لتلك التي اعتمدتها تركيا وجعلتها قادرة علي حشد موارد خارجية ضخمة لصالح تنميتها الداخلية من ناحية ودون أن تلسع أصابعها بحرائق إقليمية من ناحية أخري. وهذا هو في النهاية اجتهادنا ومن جاءنا بأحسن منه دون شعارات وكلمات جوفاء قبلناه ودعونا بقية الأمة لاعتماده وتطبيقه.