يؤمن هذا القلم الي ما لا نهاية بالشعب المصري الذي شيد وأقام حضارته منذ اكثر من عشرة آلاف عام قبل التاريخ الميلادي, فكانت هي أحد الأعمدة الرئيسية التي قامت عليها ونهضت الحضارة الانسانية كلها.. واذا كنا نقول ذلك الآن فالهدف ليس المباهاة بالتاريخ, وانما استحضاره للشهادة علي الأصالة ونقاء البذرة التي ينبثق منها النبات ليزدهر ويثمر فاذا ما أصابته علة فإن العيب لا يكون فيه بقدر ما يكون في المناخ المحيط وأساليب الرعاية.. واذا كنا نقول ان المصري القديم هو أول من توصل الي وحدانية الله سبحانه والي البعث لتلقي الجزاء ان ثوابا أو عقابا.. وانه أول من وضع حسابا للزمن بالسنة والشهر والاسبوع واليوم والساعة.. وحافظ علي البيئة وأقسم انه لم يلوث يوما نهر النيل وانه لهذا كله وغيره هو الذي بني مصر.. وان مصر هي باذن الله هبة المصريين والنيل معا.. وليست فقط هبة النهر كما قال هيرودوت.. فان هذا المصري تولي حماية وطنه والدفاع ليس فقط عنه وانما عن كل الأقطار المحيطة به من بلاد الرافدين شرقا الي أقطار الغرب.. ومن البحر شمالا الي بلاد بونت جنوبا.. كانت مصر.. وكان الشعب المصري الذي تتعدد انجازاته ودلائل جهاده وثمار عطائه.. فهو الذي حمي بقدرة الله سبحانه الأنبياء وأبرزهم يوسف وموسي وعيسي من الغدر والاضطهاد وهو الذي حافظ علي وثائق الاسلام وحضارته خلال انهيار الدول الاسلامية في القرن الثالث الهجري.. وقبلها حافظ علي المسيحية من الاضطهاد الروماني واليهودي فكان لجوء الأب أنطوان الي مكان قصي في المنيا ثم البحر الأحمر ومعه الوثائق والتلاميذ بعيدا عن الأعين.. فكانت هذه بداية إنشاء الأديرة والرهبنة خدمة للدين.. واذا كنا الأسبوع الماضي قد احتفلنا بذكري ثورة23يوليو التي أعادت صياغة الحياة مصريا وعربيا وافريقيا بل وفي بعض دول آسيا وأمريكا اللاتينية بشهادة قادتها ومؤرخيها.. مما يعطي دلائل اضافية علي دور مصر وجهود المصريين.. فاننا أيضا في نفس الفترة احتفلنا بمرور خمسين سنة علي بداية بث التليفزيون أول تليفزيون في المنطقة والذي لا تنحصر أهميته في استحداث تقنية جديدة ووسيلة حديثة وانما في الدور الذي قام به' المصري' نشرا للحضارة ودعوة الي التقدم وانطلاقا الي التنوير لترقية الحياة..بالانسان والمكان.. وللأسف فان حدثا آخر بارزا لم نلتفت اليه رغم ما يعكسه من مقدرات الوطن وأبنائه.. وأعني به اسبوع تساقط الطائرات السريع الذي كان هو الاسبوع الأخير في شهر يوليو1970 أي منذ40 سنة بالتمام والكمال عندما استطاع المقاتلون المصريون اصطياد الطائرات الاسرائيلية التي كانت تقوم بهجمات ضد جبهة القتال ومحاولة ضرب الاستحكامات العسكرية المصرية غرب القناة واختراقها لضرب العمق..وأدي السقوط المتوالي للطائرات المعادية الي ان اطلق الخبراء العسكريون الاسرائيليون والأوروبيون اسم' اسبوع تساقط الطائرات السريع' دليلا علي خيبة الاسرائيليين وقد استمر هذا حتي الأيام الأولي من أغسطس والي ان تم وقف اطلاق النار في الثامن من اغسطس وهذا هو التاريخ الرسمي لنهاية حرب الاستنزاف التي تعد بشهادة العدو حربا مستقلة وكان عمادها' المصري'..المواطن البسيط الذي لا يذكر أحد اسمه لكنه البطل العظيم الذي كان يلتحم مع مدفعه المضاد للطائرات ويظل يضرب ويستمر رغم اصابته ونزيفه.. ولقد شاهدت هذا بنفسي.. وكم من الأبطال تفحموا علي اسلحتهم ولم يتركوها.. كما شاهدت المواطن المصري في القرية والمدينة..وفي الجيش والحياة المدنية..شجاعا صلبا.مستعدا للعطاء بغير حدود.. ولكن اذا كان ذلك كذلك.. فما الذي جري. وما الذي تغير حتي تقوم زوجة متعلمة باذلال زوجها بأنها أكثر منه ثراء.. وانها تنفق علي البيت فينتفض وهو المتعلم بل المثقف باعتباره مذيعا فيسرع الي مسدسه ويقتلها ثم ينهار الي جوار جثمانها! وما الذي جري في الدنيا حتي يقتل ابن والده وهو في المسجد وحتي تخنق أم.. طفلتها وحتي.. وحتي! ان القضية خطيرة.. وهي تتصل مباشرة ببناء البشر.. وتجعلنا نردد المقولة الصادقة انه الأصعب والأهم من أي بناء آخر.. لأن البشر هو اساس كل عمل.. ويتصل هذا بالتنمية الاجتماعية الحضارية السليمة.. ولقد جري أكثر من مرة خلال العقود الماضية ان قالت الحكومة وهي السلطة التنفيذية التي تدير المجتمع انها سوف تهتم بهذا.. بل ان الرئيس حسني مبارك طالب منذ نحو عشر سنوات بوضع استراتيجية للتنمية الاجتماعية.. وللأسف فانها لم تتكامل.. ولم نجد لها أثرا..!! ان بناء البشر اساس التنمية الاجتماعية يعتمد علي التنشئة والتربية والتعليم والثقافة.. وأيضا علي البعد الاقتصادي وأساسه الأجور والأسعار.. لتلبية الاحتياجات الأساسية.. وتحقيق العدالة الاجتماعية.. وتؤثر فيه أيضا عوامل مهمة منها الغذاء السليم.. غير أننا لا نهتم بهذا كما ينبغي مع أننا جميعا نعرف ان الغذاء مهم فهو مع الرياضة يصنع الجسم السليم الذي به العقل السليم.. والعكس صحيح لكني سمعت منذ ايام طبيبا عالما يقول ان قيمة الغذاء ليست فقط في نوعيته وانما أيضا في كيفية زراعته وصناعته.. فإن الغذاء الناتج من زراعة استخدمت المبيدات الكيماوية والضارة يؤدي هكذا قال الي ان يصبح الانسان ميالا للعنف.. وتجعله أحيانا يصاب بجنون مؤقت لدقائق أو للحظات.. فيرتكب جرائم وأعمال عنف!! وهذا أمر غريب.. واذا أضفنا اليه التلوث والتأثير السلبي للضغوط الاقتصادية والاجتماعية والانحرافات الأخلاقية وموجات التحرر الزائدة عن الحد وما تبثه الفضائيات وشبكات المعلومات غير المسئولة وما الي ذلك.. فأي بناء يكون ولأي بشر! ومع ان الصورة تبدو قاتمة الا ان هذا القلم لا يزال علي ايمانه بالوطن ودوره.. وبهذا الشعب وأصالته.. ولكن لا ينبغي الارتكان والارتكاز الي هذه الحقيقة ونترك' الفراشة' في مهب الريح والعاصفة بين ألسنة النيران.. فالقضية تحتاج الي تحرك ضروري وعاجل.. وللعلم فإنها لا تحتاج الي مال واستثمار بقدر ما تحتاج الي رجال وأفكار.