فتح النقاش الساخن الذي جري خلال هذا الصيف حول معاهدة السلام العربية الإسرائيلية باب الحاجة لإعادة النظر في السياسة الخارجية المصرية. وإذا كانت السياسة الداخلية المصرية قد تعرضت لكثير من المراجعات والمناقشات والحوارات خلال الأعوام الماضية، فإن السياسة الخارجية، وسياسات الأمن القومي في العموم، لم تتعرض أبدا لمناقشة أو حوار جاد. وكان ذلك راجعا في بعض منه لاعتبار أن هذه السياسات " العليا" ينبغي أن تكون موضوعا لتوافق عام لا يصح الخلاف عليه؛ وفي بعض آخر ساد الاعتقاد أن هذه السياسة من صميم اختصاص القيادة السياسية التي تعرف الصالح المصري أكثر من أي طرف سياسي آخر في البلاد؛ أما البعض الثالث فقد استند في غياب النقاش علي أن السياسة الخارجية المصرية تستند إلي مجموعة من " الثوابت" يقع في مقدمتها الحفاظ علي مصر من الغزو الخارجي، وتعظيم مصالحها الاقتصادية والسياسية، والحفاظ علي دور مصر الإقليمي. ونجم عن ذلك اعتقاد جازم بأن سياسات مصر الخارجية تقوم علي ثلاث دوائر عظمي: الدائرة العربية، والدائرة الإفريقية، والدائرة الإسلامية. وما عدا ذلك يعد مجرد تفاصيل تعود إلي مسار الأحداث اليومية المتغيرة التي يترك تقديرها لرئاسة الجمهورية والأجهزة المعنية المعاونة لها. لقد آن الأوان لمراجعة السياسة الخارجية المصرية استنادا إلي حقيقتين أساسيتين: الأولي أن العالم قد تغير، بمعني أن البيئة الخارجية لمصر قد تغيرت بصورة جوهرية، وبعد أن كان علي مصر أن تتعامل، وتصمم سياسة، للتفاعل مع نظام عالمي يقوم علي القطبية الثنائية والحرب الباردة " المشتعلة " بين القطبين، إلي عالم أحادي القطبية ذات الأذرع الرأسمالية المتعددة ذات التوجه للعولمة بكل خصائصها التنافسية. كذلك تغير الإقليم الذي يحيط بمصر مباشرة نتيجة السلام المصري _ الإسرائيلي والذي جعل قضية مصر ليس الحرب والصراع مع إسرائيل، وإنما التوصل إلي تسوية عادلة معها. وبعد هذا التغير تغيرت حقائق كثيرة في المنطقة ظهرت في شكل أدوار جديدة لقوي إقليمية مختلفة يقع في مقدمتها إيران وإسرائيل والسعودية وتركيا، بينما بدأت دول أخري في التفكك والانهيار مثل العراق والسودان والصومال والسلطة الوطنية الفلسطينية. والحقيقة الثانية هي أن مصر نفسها قد تغيرت كثيرا في بنيتها الاقتصادية والسياسية والديموغرافية، ولم يعد الاقتصاد المصري اقتصادا مغلقا بل بدأ في الانفتاح التدريجي من أجل التوصل إلي اقتصاد السوق؛ ولم تعد السياسة المصرية كما كانت بسبب التطور الديمقراطي والانفتاح الإعلامي محتكرة من طرف واحد يحدد التوجه ويصدر القوانين والتشريعات كما يريد؛ وبالتأكيد فإن مصر لم تعد وهي تتكون من 77 مليون نسمة مثلما كانت 20 مليونا عام 1950 أو 30 مليونا عام 1970 أو 40 مليونا عام 1980 . لقد نتج عن هذا التغير الجوهري تغيرا في وضع مصر الإقليمي والعالمي، وترتب علي هذا التغير مجموعات من الحقائق السياسية الجديدة، ومع ذلك ظل الخطاب الرسمي- والشعبي _ المصري كما كان منذ الخمسينيات، وترتب علي ذلك المفارقة بين الواقع الفعلي والخطاب السائد سلسلة من الإحباطات والإحراجات لا يوجد لها ما يبررها. وبناء عليه فإن الهدف الأساسي من وضع سياسة خارجية جديدة لمصر هو تجسير الفجوة بين الخطاب والواقع من ناحية، والتعبير عن المصالح المصرية التي تولدت عن التغيرات المشار إليها من ناحية أخري. والمصلحة المصرية الأولي والتي لا يعلو عليها مصلحة أخري هي تحقيق الرفاهية للشعب المصري الذي بات متوقعا أن يصل إلي 100 مليون نسمة خلال فترة ليست بعيدة، وحتي يتحقق هذا الهدف فلا بد من زيادة معدلات النمو المصرية جذريا عما هو متاح حتي الآن. ومن الطبيعي أن تحقيق هذا الهدف سوف يعود أساسا إلي الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي تقوم بها مصر في الداخل، ولكن وظيفة السياسة الخارجية هي تهيئة البيئة الخارجية للمساهمة في تحقيق معدلات النمو المرتفعة إلي جانب زيادة الموارد والاستثمارات الخارجية التي تساعد علي تحقيق هذا الهدف. والمصلحة الثانية هي مواجهة التهديد الرئيسي للأمن القومي المصري في هذه المرحلة وهو القادم من الأصولية الإسلامية الراديكالية التي قتلت قرابة 1400 مصري خلال الربع قرن الأخير، وكلفت مصر تكلفة اقتصادية كبيرة لم يتم حسابها حتي الآن. هذا التهديد يتجسد في أشكال مختلفة من الأصوليات بعضها محلي وبعضها عالمي، وبعضها يستند إلي حركات أصولية وبعضها يستند إلي دول أصولية، وبعضها يريد الوصول إلي السلطة في مصر بالطرق السلمية وبعضها الأخر يريد الوصول إلي السلطة بالعنف المسلح. وبغض النظر عن الأنواع المختلفة للأصوليات إلا أنها جميعا تتفق علي أولوية التغيير في مصر، وعلي ضرورة التغيير في القيم الاجتماعية والسياسية في مصر والمنطقة، وعلي أن الفوضي وعدم الاستقرار في مصر والمنطقة من أهم الأدوات لتحقيق الأهداف الأصولية. المصلحة الثالثة تعظيم الفائدة من التحولات التي جرت بالفعل خلال الأعوام الماضية والتي أدت إلي أن " الدائرة الأوروبية" و"الدائرة الأمريكية" تتفوقان علي باقي الدوائر التقليدية الأخري- العربية والإفريقية والإسلامية _ من حيث التجارة والمعونات والاستثمارات والتسلح للقوات المسلحة المصرية. ورغم هذه الحقيقة الواضحة فإن الخطاب المصري تجاه الدائرتين لم يعكس هذه الحقيقة أبدا بل كان _ علي العكس _ معبرا عن توترات مختلفة معهما لأسباب حضارية من ناحية، وأسباب تخص الصراع العربي _ الإسرائيلي والقضايا الإقليمية من ناحية أخري. والحقيقة انه في الغالبية العظمي من دول العالم فإن تقوية العلاقات مع الدائرتين الأوروبية والأمريكية كان واحدا من الأسباب الرئيسية للتقدم والنمو. والمصلحة الرابعة لمصر الباحثة عن التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لأبنائها لا بد وأن يتم في إطار إقليمي مستقر، ومن ثم فإنه لا يوجد لمصر مصلحة إطلاقا في استمرار الصراع العربي _ الإسرائيلي واعتباره واحدا من أدوات الدور الإقليمي _ والدولي _ لمصر. مثل هذه النظرية أضرت بمصر ضررا بالغا، وحتي لو كان لها فائدة في وقت من الأوقات فإنها قد تعدت فائدتها، وأصبحت واحدة من العقبات أمام أهداف التنمية المصرية. وليس معني ذلك أنه لا توجد تناقضات مصرية إسرائيلية، فهذه التناقضات سوف تظل موجودة طالما لم يتم حل المشكلة الفلسطينية، ولم يتم الجلاء عن الأراضي العربية المحتلة، ولم تتخل إسرائيل عن سلاحها النووي، ولكن معالجة هذه التناقضات لا بد وأن يتم في إطار المصالح المحددة أعلاه، وعلي ضوء تصحيح توازن القوي بين مصر وإسرائيل من خلال بناء القدرات المصرية. والمصلحة الخامسة تجمع المصالح المصرية التقليدية في الدوائر الثلاث المتعارف عليها- العربية والإفريقية والإسلامية- وهي دوائر يمكنها أن تقدم بعض العون للتنمية المصرية، كما أنها تاريخيا أعطت بعض الأوراق السياسية لمصر تستخدمها في المحافل الدولية. مثل ذلك يجب المحافظة عليه وزيادته، ولكن في نفس الوقت معاملته بواقعية كاملة ودون تضخيم أو تهويل، أو علي الأقل ألا يسبب لمصر تكلفة أكثر من العائد منها. هذه المصالح الخمسة تفرض علينا نوعية مختلفة من السياسيات الخارجية نفصلها في مقال الأسبوع القادم.