البعض في واشنطن وتل أبيب مبتهج بالعمليات العسكرية الجارية في الشرق الأوسط خاصة بعد التعبير الذي أطلقته كونداليزا رايس بأن آلام لبنان ستؤدي إلي "الميلاد العسير لشرق أوسط جديد". بالنسبة لمنظِّري "الفوضي البنّاءة" يجب سفك الدماء من أجل الوصول إلي نظام جديد في هذه المنطقة الغنية بالنفط، ولهذا جاء هجوم قوات تساهال ضد لبنان الذي تم التخطيط له منذ زمن طويل، ويتم الإشراف عليه من وزارة الدفاع الأمريكية. تعتبر التوقعات، أو بالأحري الآمال المرتبطة بإنهاء الحرب الدائرة حالياً بين إسرائيل و"حزب الله"، أو المتعلقة بحل جذور المشكلة كما يقول البعض غاية في الصعوبة. فالحرب الحالية تنطوي علي مجموعة من الأوهام، كما أن الإنجازات المرجوة منها تلامس المستحيل، وهي فوق ذلك لم يخطط، أو يسعي لخوضها أحد. وحتي لو طالبت الأممالمتحدة بإقرار وقف إطلاق النار فإنه من غير المرجح أن يلتزم به الطرفان ما دام لكل منهما أهدافه الخاصة التي يسعي إلي تحقيقها. فإسرائيل والولايات المتحدة تريدان إلحاق هزيمة ماحقة "بحزب الله" ويسعيان إلي رؤية قدراته مدمرة وعاجزا عن تهديد شمال إسرائيل. لكن الدولة العبرية التي كان ذلك هدفها المعلن منذ البداية واجهت صعوبات عديدة في القضاء علي "حزب الله"، أو الحد من إمكاناته العسكرية. فقبل بدء الحرب كانت إسرائيل تصر علي رفضها التوصل إلي اتفاق لوقف إطلاق النار، أو مجيء قوة دولية إلي الجنوب بسبب اعتقاد إسرائيل بأن أي قوة في الجنوب يشارك فيها الأوروبيون ستعيق حريتها في التحرك عسكريا. وحتي مع اشتداد حدة المواجهات العسكرية بين الطرفين رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت وقف إطلاق النار ما لم يتم نشر قوات دولية في جنوب لبنان، وهو أمر قد يستغرق عدة أسابيع. وفي الوقت نفسه ستواصل إسرائيل هجومها علي "حزب الله" تماشيا مع تصريح أولمرت في الثالث من أغسطس الجاري بأنه لن يقبل بأقل من "تفكيك حزب الله، ونشر قوات الجيش اللبناني علي الحدود مع إسرائيل، والعودة غير المشروطة للجنديين الإسرائيليين المختطفين". وفي أثناء ذلك وزع الطيران الإسرائيلي منشورات علي الضاحية الجنوبية في بيروت يطلب إلي السكان إخلاء منازلهم قبل تعرض المنطقة للقصف. لكن واشنطن التي وقفت إلي جانب إسرائيل عبر رفضها الوقف الفوري لإطلاق النار بهدف منح الجيش الإسرائيلي فسحة من الزمن كافية لدك "حزب الله" بدأت تطالب بوقف سريع للأعمال الحربية من الجانبين بعدما أدركت ردة الفعل السلبية التي أحدثها انحيازها الواضح لإسرائيل. من ناحيته توعد "حزب الله" علي لسان أمينه العام حسن نصر الله بقصف تل أبيب بصواريخ ذات قدرة تدميرية عالية في حال استهدفت إسرائيل بيروت. وعلي غرار إسرائيل التي ترفض وقف إطلاق النار ما لم يتم القضاء علي "حزب الله"، فإن هذا الأخير لن يجد مبرراً لوقف إطلاق الصواريخ، خصوصا إذا واصل مقاتلوه مواجهتهم للزحف البري للقوات الإسرائيلية وتكبيدها خسائر في صفوف جنودها. "فحزب الله" لم يحقق الهدف المتمثل في عودة الأسري اللبنانيين وانسحاب القوات الإسرائيلية من مزارع شبعا التي تعتبرها لبنان جزءا من أراضيها. أما فرنسا التي يتوقع أن تقود قوة دولية في جنوب لبنان لحفظ السلام كما أعلنت هي نفسها في وقت سابق ليست مستعدة للدخول في حرب مع "حزب الله" نيابة عن إسرائيل. لذا تصر علي ضرورة التوصل إلي تسوية سياسية قبل التفكير في نشر أي قوات في جنوب لبنان. المشكلة أن إسرائيل تعتبر أن أي اتفاق مع "حزب الله" هو "هزيمة" تفقدها هيبتها في المنطقة. فقبل العملية العسكرية لإسرائيل في لبنان تعهد أولمرت بالقضاء علي "حزب الله" في غضون أيام فقط، أو علي الأقل الحد من قدراته كما صرح لاحقاً. وطمأن مواطنيه بأن الحزب لن يستطيع أبدا تهديد إسرائيل بصواريخه التي يطلقها علي المدن الشمالية. لكن يبدو بأن أولمرت كان يردد ما يخبره به جنرالات الجيش الإسرائيلي، لا سيما وأنه لا يمتلك خبرة عسكرية. ومع ذلك كان غريباً أن يعلن أولمرت في الثالث من الشهر الجاري أن القدرات العسكرية ل"حزب الله" "قد دمرت بالكامل"، وهو ما يشير إلي الانفصام الحاصل بين القيادة السياسية في إسرائيل والواقع الذي يعيشه المواطنون. وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه أولمرت تدمير "حزب الله" أطلق هذا الأخير أزيد من 230 صاروخاً علي إسرائيل، وهو رقم قياسي غير مسبوق إلي غاية ذلك الوقت، فضلاً عن وصولها إلي مناطق جديدة وسط إسرائيل مرغمة العديد من السكان إلي الهرب في اتجاه الجنوب. ورغم قيام إسرائيل بإنزال قوات "كوماندوز" بالقرب من بعلبك في شمال لبنان ظلت المحاولات الإسرائيلية للتقدم جنوباً عبر الحدود تواجه الكثير من الصعوبات. ولم يستطع الجيش الإسرائيلي التقدم إلي أكثر من ستة كيلوميترات، لتتحدث إسرائيل في اليوم التالي عن توغلها بعمق 8 كيلومترات، وهو لا شيء بالمقارنة مع الاجتياحات السابقة لإسرائيل حيث كانت في مثل هذا الوقت تصل إلي قلب العاصمة بيروت. وتحاول إسرائيل في هذه المرحلة إقناع الصحافة الأميركية بأن العملية العسكرية حققت "الانتصار" المرجو لأنها أوصلت رسالة واضحة إلي الفلسطينيين، كما إلي "حزب الله" ومن ورائه سوريا وإيران بأن أي هجوم في المستقبل علي إسرائيل سيرد عليه بقوة كاسحة، وبأن الثمن سيكون أكبر من المغامرة. ويبدو أن إسرائيل تستند في فكرتها هذه إلي مقولة أن العرب لا يفهمون سوي لغة العنف. وهي الرسالة نفسها التي بعثت بها إسرائيل إلي أعدائها العرب طيلة الحروب التي خاضتها معهم في 1967 و1973 و1982 و1993 و1996، فضلاً عن الانتفاضتين الفلسطينيتين، حيث كانت تلجأ إلي رد عسكري قاس عله يردع أعداءها عن التفكير في استهدافها مستقبلاً. لكن لا أحد يبدو قادراً علي مواجهة الحقيقة الماثلة أمامنا وهي أن "حزب الله" كما "حماس" ليسا جزءاً من مؤامرة تعمل علي انهيار الحضارة الغربية حسب اعتقاد البعض، بل هما حركتان لهما امتداد متجذر في شعب ملتزم بالدفاع عن قضاياه الأساسية. ولهذا السبب يصعب علي إسرائيل، أو غيرها اجتثاثهما بسهولة كما كانت تفعل بالجيوش العربية طيلة حروبها التاريخية معهم.