ترددت كثيرا في الكتابة عنه؛ ليس فقط لأننا حين نكتب عمن نوقره ونحبه قد لا نستطيع ضبط مشاعرنا؛ فتبدو الكلمات مثل الطلاسم التي لها وقعها الخاص علي الكاتب والمكتوب عنه دون الآخرين، ولكن ترددت أيضا لأن الكتابة في قضية الدكتور مصطفي علوي فرض عليها بشكل محرج إنسانيا ويمكن أن نكتب الكثير والكثير عن الجانبين؛ عن الاستاذ الذي تشهد له قاعات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وطلابها بالنبل ودماثة الخلق والعلم والتألق، والذي يكون من الظلم أن تحرم الأجيال الجديدة من محاضراته واسهاماته العلمية، أو أن يحرم بيته وابنه عمرو الذي لم يتخط الخامسة عشرة من حنان أبوته ودفء رعايته، وأيضا يمكن ان نكتب عن الموت الرهيب الذي حصد عشرات من خيرة مبدعي مصر وأدبائها، ممن أضيفوا كأرقام من الموتي بسبب ميراث من الاهمال، وهم لهم أبناء لم يتجاوزوا الخامسة عشرة مثل عمرو. ولكن هذا التردد عن الكتابة يزول حين تنتفي المقابلة التي فرض لها أن تكون؛ فالقضية ليست بين جان وضحية وإنما بين ضحيتين لا يقل حجم الظلم الذي وقع علي أحدهما عن الآخر. وثانيا، ما يجمع بين د. مصطفي علوي والضحايا هو قضية الثقافة؛ فالدكتور علوي هو أستاذ مبدع في حقل السياسة، والضحايا الأبرياء مثقفون مبدعون في حقل الأدب، وهما ينتميان إلي نفس الطبقة الاجتماعية الكادحة التي لم يكن لها أن تتعلم وأن تبدع إلا في ظل الثورة. لا أذكر أنني كتلميذه وغيري الكثيرون من تلامذة د. مصطفي علوي تساءلنا مستغربين عن تعيينه رئيسا لهيئة قصور الثقافة، وأيضا عن تعيين آخرين من الأساتذة في مواقع ليست مجال تخصصهم الرئيسي، ليس لعدم قدراتهم علي ادارة هذه المناصب، ولكن لما يعنيه نقل أستاذ جامعي قضي عمره مع العالم المثالي الجميل بين الأفكار والكتب وفي قاعات الدراسة والبحث والعلم وما يورثونه من شموخ وطول قامة، وما يمكن ان يتعرض له هذا الأستاذ من تناقض حين يتعامل مع العالم الآخر بكل شخصياته وثقافته الخاصة وطقوسه التي تجبره علي التعامل بمنطق مختلف حين يجد نفسه مرءوسا خارج قاعات الدراسة وبعيدا عن محراب العلم والجامعة. وقد سمعت الأستاذ محمد حسنين هيكل في برنامجه "مع هيكل" علي قناة الجزيرة وهو يقول إن الرئيس عبد الناصر كان يعتقد أنه يشرفه حين يعينه وهو الصحفي وزيرا للإرشاد، رغم أنه هو نفسه (هيكل) لم يكن يعتقد كذلك، وتردد في قبول المنصب ولم يقبله إلا بشروطه. فكل إنسان في موقعه لو أجاد وأبدع وأحب عمله يمكن أن يكون افضل من أي مسئول، ويمكن أن يبني لنفسه شموخا يحسده عليه اصحاب المناصب. واستغربنا كتلامذة تعيين د. مصطفي علوي في هيئة قصور الثقافة ليس فقط لما نعتقد من أنها أدني من قامته وكفاءاته، ولكن لأن هناك العشرات من المواقع والمناصب المهمة التي لم تملأ بعد ولا تزال تحركها وتديرها دوائر من الظنون والفهلوة، والتي يمكن أن يبدع فيها هؤلاء المتخصصون أكثر حين يجمعون بين العلم والممارسة. ولا أنسي ذلك اليوم في السنة الرابعة في كلية الاقتصاد من العام الدراسي 1988/1989 الذي كلفت فيه في مادة "قاعة البحث" التي كان يحاضرنا فيها د. مصطفي علوي بأن أقدم عرضا نقديا لفصل من كتابه عن مصر وإفريقيا. وكطالب ريفي فلم أكن متدربا كثيرا علي فن الإلقاء أو التعامل مع الأعمال الخاصة بآخرين، وفي هذا اليوم انتقدت فيه هذا الفصل الذي كلفت به من كتابه وكأنني لا أتناول فصلا من كتاب أستاذ لي، وهو حاضر، وكنت أتعامل مع المسألة كأنها قضية موقف وخطابة علي منبر، وفي هذا اليوم تحديدا عرفته وعرفت مدي سعة صدره في تعامله مع تلامذته، وكان موقفه النبيل درسا لي في حياتي. ولا أنسي ولا ينسي طلابه وتلامذته الذين درسوا علي يديه في السنة التمهيدية للماجستير والدكتوراة هذا البرنامج الدراسي العميق والمثير وغير المسبوق الذي كان يدرسه حول "السياسات العسكرية"، وهو الذي جعلنا جميعا نعشق هذه المادة ونحبها أكثر من أي مادة أخري، وكان يمكن أن يخرج جيلا متخصصا في هذا الحقل من الدراسات الفنية والدقيقة والمهمة بالنسبة لمصر، وضمن هذا البرنامج الدراسي المتخصص جمعنا د. مصطفي علوي بأساتذة من كلية العلوم وبضابط في الجيش وخبراء عسكريين وبالعديد من الأساتذة المصريين ممن شغلوا مواقع في وكالة الطاقة الذرية، ولقد وجدت بعدها بعضا من زميلاتنا من الإناث ممن تخصصن في الدراسات العسكرية، وهو أبعد مجال عن عالم المرأة.