عندما تم التجديد لقانون الطوارئ لعامين إضافيين استبد اليأس بكثيرين من إمكانية التغيير والإصلاح في مصر وحتي العالم العربي؛ وبشكل من الأشكال تصور الناس أن ما عرف بربيع الديمقراطية لعام 2005 في دول عربية كثيرة كان مجرد سراب ما أن تصله الشعوب حتي تجد رملا قاحلا وصحراء جدباء. وبشكل بدا أن الحظوظ باتت معاكسة تماما، فالكوارث لا تتوقف عن الحدوث من غرق السفن إلي تصادم القطارات، والإرهاب عاد مرة أخري قويا عفويا، ولم نعد نعرف أن عودته كانت بسبب ظهور جماعات إرهابية جديدة أو أنها مسألة غضب لأهل جماعات قديمة. وغير أنفلونزا الطيور التي ما أن نظن أن كارثتها قد بات مقدورا عليها، إذا بها تسفر عن قدرات كامنة مزعجة؛ فإن الدولة التي وعدت بكثير من التغيير لم تلبث أن عادت لتتصادم مع القضاة وتؤجل الانتخابات المحلية لعامين آخرين لا يعلم أحد علي وجه التحديد ما الذي سوف تفعله الدولة خلالهما، وكيف أن عامين كافيين لتحقيق ما لم يفلح الحزب الوطني الديمقراطي في تحقيقه خلال العشرين عاما الماضية. ورغم الأسئلة الكثيرة، والإجابات القليلة، فإنني أنتمي إلي جماعة من المتفائلين الذين يرون وجود تغيرات هيكلية وأساسية لن تلبث أن تسفر عن نفسها خلال السنوات القليلة المقبلة. وأول الأسباب يعود إلي الطبيعة الشبابية للمجتمع المصري والعربي، وفي مصر وحدها فإن ثلثي عدد السكان يقل في عمره عن 35 عاما، وتتكرر الحالة ذاتها في معظم الدول العربية حتي ولو اختلفت النسب قليلا بالزيادة أو النقصان. هؤلاء الشباب شاهدنا بعضا منهم خلال مباريات كأس الأمم الأفريقية يخرجون بعشرات الألوف يظهرون أنواعا من الانتماء والتدين والمعرفة بالعالم والارتباط بالعولمة ومتابعة ما يجري في الدنيا بأكثر مما تقدره الأجيال القديمة. فلعوامل تتعلق بسوق العمل وانتشار الكومبيوتر وشبكات الإنترنت والمدارس والجامعات الخاصة وانتشار تعلم اللغات الأجنبية فإن وافدا جديدا للنخبة المصرية، والنخب العربية، أكثر انفتاحا وديمقراطية سوف يغير من طبيعة النخب السياسية التي مهما كان حديثها ذائعا عن الحرية والديمقراطية فإن الأغلبية فيها تعتقد اعتقادا جازما في دولة تدخلية يحزنون كثيرا إذا ما توقفت عن تدخلها ثم يلومونها بعد ذلك لأنها ليست ديمقراطية. صحيح أن بعضا من الشباب والأجيال الجديدة سوف يذهب في اتجاه الجماعات الراديكالية، وربما يصب بعضهم روحه في العمليات الانتحارية، ولكن هؤلاء سوف يكونون علي الهامش أما التيار الكبير فسوف يكون باحثا عن دولة مثل الدول المتقدمة مع سمات من الثقافة الخاصة. وثاني الأسباب يعود إلي النفط، وفي الوقت الراهن فإن المملكة العربية السعودية تحصل يوميا علي مليار دولار، ودول الخليج تحصل علي مليار أخري. وفي مصر فإن العوائد النفطية قد ساعدتها عدة مرات، فهي من ناحية رفعت عوائد النفط المصرية إلي ما يزيد علي أربعة مليارات ونصف المليار في العام، ومن ناحية أخري فإن أموال النفط قد أنعشت اقتصاديات السعودية والخليج وذلك زاد الحركة في قناة السويس فزادت مواردها، ومن ناحية ثالثة فإن السياحة العربية إلي مصر تزيد هي الأخري كلما زادت أسعار النفط. هذه الموارد الجديدة قد تكون مغرية بتأجيل الإصلاح، وطالما كان ممكنا تلبية احتياجات السكان فإنه لا مدعاة لقلق سياسي. ولكن المسألة ليست بمثل هذه البساطة، فالأغلب وفق التقديرات العالمية أن الثورة النفطية لن تكون مؤقتة هذه المرة أو مرتبطة بالدورات الاقتصادية المألوفة لأنها ترتبط بتغير هيكلي في السوق العالمية بسبب الطفرة الهائلة في اقتصاديات الهند والصين بالإضافة إلي عدد من الدول الأخري. وعندما يكون الحال كذلك فإن أموال النفط سوف يتوجه جزء منها علي الأقل لتمويل الرأسمالية والقطاع الخاص وهو ما يعني زيادة حجم الطبقة الوسطي وهي عادة القوة الأساسية للإصلاح والتغيير. والحقيقة أن ثورة القضاة في مصر، والدور الذي تلعبه الجماعات المدنية المختلفة، والتنظيمات التجارية والاقتصادية، ما هي إلا التعبيرات عن قوة الطبقة الوسطي وقدرتها علي رفع صوتها وهي مسلحة بقدرات اقتصادية غير مسبوقة. وثالث الأسباب أن الضغوط العالمية لن تتوقف، ورغم أنها كثيرا ما تستفز السلطات القائمة، وحتي الشعوب والطبقات الوسطي، إلا أن طبيعة التشابك الجاري بين مصر والعالم العربي علي جانب وبقية العالم علي جانب آخر. فالقضية ليست بيانات وزارة الخارجية الأمريكية، واستنكارات الإتحاد الأوروبي، أو حتي احتجاجات الصحافة الغربية، وإنما القضية هي أن التشابك التجاري والاستثماري والتكنولوجي مع الدول الغربية سوف يعطيها قدرة علي التأثير يصعب تجاهلها. وربما فوجئ كثيرون عندما أعلنت دولة قطر عن وقف مفاوضات التجارة الحرة بينهما لأن الروابط الأمريكية القطرية معروفة، ولكن هذه الروابط ذاتها هي التي شجعت واشنطن لكي تربط بين اتفاقية تجارية وضرورة تحسن السجل الديمقراطي للدولة القطرية. وكانت الولاياتالمتحدة هي التي أوقفت مفاوضات التجارة الحرة مع مصر لأسباب سياسية. وبالتأكيد فإن هذه الضغوط مستنكرة، ولكن وجودها علي هذا الشكل يؤكد أنه كلما زادت كثافة العلاقات ليس فقط مع أمريكا فإن مساحة بقاء الأمور السياسية علي حالها سوف يكون أقل مع مرور كل يوم !.