عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
عودة السياسة إلي مصر
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 09 - 2010

عادت السياسة مجددا للساحة المصرية‏,‏ فحتي وقت قريب للغاية‏,‏ هيمن رهانان أساسيان علي الحديث عن مستقبل السياسة في مصر‏:‏ الأول رهان زاعق للغاية ومنتشر في مشارق الأرض ومغاربها بالتمني أحيانا وبمعلومات ناقصة في أحيان أخري وبنظرة قاصرة في أحيان ثالثة رأي أن البلاد في طريقها إلي تغيير جذري انفجاري ثوري من نوع أو آخر‏.‏ هذا الرهان وجدناه ذائعا عاليا في الفضائيات التليفزيونية‏,‏ حتي في صحف سيارة استبد بها الشوق إلي انفجار مدو‏,‏ وتبنته حركات سياسية تصورت أن في سلالم النقابات ومداخلها مع كاميرات التليفزيون‏,‏ وعدسات المصورين ما يعطيها المنعة والقدرة علي تغيير التاريخ‏.‏
ومن المدهش أن مؤسسات دراسات سياسية غربية معتبرة مثل مؤسسة كارنيجي الأمريكية صدقت هؤلاء وراحت تنفخ في قصتهم‏,‏ وتستمد من روايتهم معلوماتها عن الواقع السياسي والاقتصادي في مصر مهما كان يغالب الأرقام الحقيقية عن الأمور والأحوال في البر المصري‏.‏ ولأن الصحافة العالمية سريعة‏,‏ وليس لديها وقت طويل تقضيه في التفاصيل‏,‏ فقد وجدت في هذه القصة‏,‏ وهي تحتوي علي الكثير من القصص الفرعية‏,‏ ما يثير وما يلفت الانتباه‏,‏ وربما يعطي ثواني قليلة في مقدمات النشرات والصحف العالمية‏.‏ وكان الأمر يبدو أحيانا وكأنه جزء لا يتجزأ من الرواية العالمية لثورات ديمقراطية ذات ألوان برتقالية وبنفسجية آن أوانها علي ضفاف النيل خاصة بعد أن جاءها فارس من فيينا‏,‏ حيث الوكالة الدولية للطاقة الذرية‏,‏ علي حصان أبيض يحمل جائزة نوبل في يد‏,‏ وظواهر جارية علي الفيس بوك العصرية جدا في عالم الشبكات الاجتماعية من ناحية أخري‏.‏
الرهان الثاني‏,‏ الذي تبنيته دوما‏,‏ قام علي أن مصر دولة قديمة‏,‏ قد يكون لها حلقاتها الكثيرة‏,‏ ولكنها مستمرة يتراكم فيها التغيير الذي لا يعرف الطفرة‏,‏ ومن الممكن أن يتعرض لانتكاسة من وقت لآخر‏,‏ ولكنه سرعان ما يعود مرة أخري إلي مسار التقدم خطوة بعد خطوة‏,‏ تماما مثل النيل الذي يسير في طريقه الطويل هادئا مسترخيا من المنبع إلي المصب‏.‏ القناعة في هذا الرهان كانت تبدأ من أن القيمة الأساسية في الثقافة المصرية هي الاستقرار‏,‏ وفي بلد نهري فإن الفوضي لا تعد من المعاصي بل هي حتما من الخطايا‏.‏
ولم يكن هناك في مسارات دول أخري سارت علي الطرق الملونة ما يبهج أو يسر‏,‏ ورغم إغراء الديمقراطية فإن وجودها دون دولة قوية وطبقة وسطي صناعية ومتقدمة‏,‏ فإنها تكون أقصر الطرق إلي أقسي مستويات الاستبداد‏.‏ ولا يحتاج الأمر أكثر من مجرد إلقاء نظرة علي ما كان يجري علي مدخل نقابة الصحفيين أو المحامين لنتأكد من أن ما رفع من شعارات ديمقراطية كان أشبه بأقنعة لوجوه تسامحت مع كل أنواع الديكتاتورية والفاشية تحت أردية وأعلام شتي‏.‏ حتي عندما جاء الليبرالي العتيد علي جواده الأبيض من فيينا‏,‏ فسرعان ما وقع في أحضان يسار ويمين ليس فيه درجة واحدة من الليبرالية‏.‏ وعلي كل الأحوال فسرعان ما انقلب السحر علي الساحر‏,‏ وتراجع عدد التوقيعات المطلوبة من خمسة ملايين توقيع صحيح بالاسم والعنوان والرقم القومي إلي مليون واحد يدعي به‏,‏ وثلثاه من توقيعات الإنترنت المشكوك فيها‏.‏
أما صلب هذا الرهان فكان أن الدولة المصرية قامت علي مؤسسات مهما كانت معضلاتها وأشكال العجز فيها‏,‏ فإنها قادرة علي الاستمرار‏,‏ وفيها من التقاليد واحترام للكتاب ما يصعب تجاوزه سواء من داخلها أو من خارجها‏.‏ ومن ناحية أخري فإن التغيرات الجارية في مصر تجعل الأحوال أفضل كثيرا مما يشاع حتي لو كانت أقل كثيرا مما هو مرغوب فيه‏.‏ وخلال السنوات الخمس الأخيرة فقط نمت مصر بمتوسط نمو قدره‏6.4%;‏ ولولا الأزمة الاقتصادية العالمية لتخطي المتوسط‏7%,‏ وعندما يستثمر في مصر قرابة تريليون جنيه مصري خلال هذه الفترة‏,‏ ويتجاوز حجم الأموال الموجودة في البنوك‏800‏ مليار جنيه‏,‏ فضلا عن وجود ما يزيد علي‏34‏ مليار دولار من الاحتياطيات‏,‏ وإنشاء‏8000‏ شركة في عام‏2008‏ وحده مقابل‏2750‏ في عام‏2002,‏ ودخول‏4‏ ملايين شاب مصري كأصحاب مشروعات ومشاركين في استثمارات خاصة‏,‏ فإن الحديث عن ثورة وشيكة كان نوعا من أضغاث الأحلام‏.‏
وبكل تأكيد‏,‏ كان الرهان الأول هو الأعلي صوتا خلال المرحلة الماضية‏,‏ ولكن سرعان ما أخذ هذا الرهان في التفكك تدريجيا من الناحية السياسية عندما ظهر أن الجمعية الوطنية للتغيير لا تختلف كثيرا عن عدد من العناوين التي انتشرت في مصر خلال السنوات الأخيرة من أول حركة كفاية‏,‏ وحتي كل من خرج منها أو انبثق عنها وحاول أن يقلدها في السنوات التالية مثل الحملة الشعبية للتغيير والتجمع الوطني للتحول الديمقراطي‏,‏ وشايفنكو وحركة شباب‏6‏ أبريل‏.‏ ومن الناحية العملية فإن أنصار هذا الرهان وضعوا كل بيضهم في سلة واحدة لاختبار مدي سلامة ما تواضعوا عليه‏,‏ وكأنه البديهية الأساسية للسياسة المصرية من خلال الدعوة إلي مقاطعة الانتخابات التشريعية والرئاسية المصرية ما لم تتم الاستجابة الكاملة لمطالبهم القائمة علي تغيير الكتاب‏,‏ أي تغيير قواعد اللعبة السياسية بينما المباراة جارية بالفعل‏.‏
ومن المدهش أن أيا من المشاركين في الدعوة إلي المقاطعة لم يستفد أو بالأحري لم يتعلم من تراث المقاطعة في مصر قبل ثورة يوليو وبعدها‏,‏ التي كان حصادها في أغلب الأحوال سلبيا‏,‏ خاصة الانتخابات التشريعية لعام‏1990‏ التي قاطعها حزبا الوفد والعمل وحركة الإخوان‏,‏ وكانت النتيجة درسا قاسيا وهو العزلة السياسية عن الساحة المصرية لمدة خمس سنوات كاملة انتهت مع انتخابات‏1995,‏ حيث لم تتجدد الدعوة مرة أخري حتي أحياها عدد من الجماعات السياسية مرة أخري‏,‏ ومعها حزب الجبهة الديمقراطية‏,‏ وحزب الكرامة تحت التأسيس وحزب الغد جناح أيمن نور وهي كما نري كلها تنتمي إلي الهامش السياسي أكثر من وجودها في قلبه‏.‏
القلب‏,‏ كما راهن عليه أصحاب الرهان الثاني‏,‏ كان يتفاعل مع السياسة بطريقة أخري يتحقق فيها الاستمرارية التاريخية‏,‏ والتقاليد الراسخة في السياسة المصرية‏,‏ والتي لا تسمح بغير الطرق السوية سبيلا للتفاعل السياسي‏.‏ وربما كان المشهد الفاصل في هذه العملية باهرا عندما قررت الجمعية العمومية بحزب الوفد في‏17‏ سبتمبر الحالي خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة‏,‏ بعد أن حصدت الموافقة‏504‏ من الأصوات بنسبة‏56.7%,‏ في حين عارض‏407‏ من الأصوات المشاركة بنسبة بلغت‏43.3%,‏ وذلك من بين‏923‏ شاركوا في الجمعية العمومية‏.‏
ومن هنا أصبح طبيعيا أن يشارك في هذه الانتخابات أحزاب المعارضة الرئيسية التي تضم أحزاب الوفد والتجمع والعربي الناصري‏,‏ بينما خرج حزب الجبهة الديمقراطية إلي ساحة العزلة الباردة نتيجة مسايرته لهوامش السياسة المصرية بدلا من قلب مؤسساتها الشرعية‏.‏ أضف إلي ذلك أن أحزابا أخري كونت ما يسمي بتحالف الأحزاب المصرية وهي الجيل والأحرار وشباب مصر ومصر العربي الاشتراكي والخضر والتكافل‏,‏ للنظر في مدي مشاركتها في الانتخابات‏.‏ كما شكلت أحزاب ثالثة ما يعرف بكتلة الأحزاب التي ضمت أحزاب الشعب والجمهوري والاتحادي الديمقراطي بعد أن انسلخت عنها أحزاب مصر العربي الاشتراكي والمحافظين والأمة والوفاق نظرا لشبح الانقسامات الداخلية التي تواجهها‏.‏
وهكذا‏,‏ ما إن اقترب موعد الانتخابات التشريعية بالفعل حتي عادت السياسة المصرية إلي مجراها الطبيعي حيث تقوم أحزاب رسمية ذات طبيعة مؤسسية وشرعية بالمشاركة في النظام السياسي بقدر أكبر من الفاعلية وهو ما ظهر من خلال عملية التفاعل السياسي حول ضمانات نزاهة الانتخابات القادمة التي جرت بين الحزب الوطني الديمقراطي وأحزاب الوفد والتجمع والناصري والجبهة الديمقراطية‏.‏ ولم يكن ذلك تكرارا لما جري في السابق عندما تسابقت الأحزاب ومرشحوها علي الدخول في الانتخابات رغم كل التحفظات عليها‏,‏ ولكن للاستفادة من التغيرات الكثيرة التي جرت في المجتمع المصري خلال السنوات الخمس الماضية‏.‏
هذه التغيرات بدت أول ما بدت في التغيرات التي جرت داخل حزب الوفد الذي سلم قيادته من زعامة قانونية مشهود لها‏,‏ إلي زعامة أخري أكثر عملية ونفاذا إلي الأسواق ومسلحة بخمس قنوات تليفزيونية وصحيفتين لهما انتشار مرموق هما الوفد والدستور‏;‏ وأكثر من ذلك ونتيجة هذا التغيير ارتفع عدد أعضاء حزب الوفد في مجلس الشعب من خمسة أعضاء إلي أربعة عشر عضوا وهو ما يعطي نوعا من الجاذبية السياسية لم تكن متوافرة من قبل‏.‏ وعندما يحدث ذلك في حزب تاريخي‏,‏ له قواعد ومقار في كافة المحافظات المصرية‏,‏ ولا يشكو من ضعف التمويل‏,‏ ونجح خلال قيادته السابقة في الدفع بقيادات شابة إلي المقدمة في العمل السياسي‏,‏ فإننا نصبح أمام تطور هام في السياسة المصرية سوف يكون له نتائجه الهامة خلال المرحلة المقبلة‏.‏
أضف إلي ذلك أن حزب الوفد‏,‏ والأحزاب التي تعرف التقاليد الحزبية الصحيحة‏,‏ تعرف أن أحد الأهداف الأساسية للأحزاب السياسية هو الوصول إلي السلطة من خلال المشاركة في الانتخابات‏,‏ ولا يتوقع أن يكون الأسلوب الذي تتبعه هو المقاطعة والعزلة في الوقت الذي تطالب دوما بإحداث التغيير السياسي والاقتصادي والتشريعي‏,‏ لأن القاعدة الأولي في العمل الديمقراطي هي أنه لا يمكن أن تحقق القوي السياسية الراغبة في الإصلاح والداعية إلي التغيير ما تريد بينما هي تناضل خارج الساحة السياسية‏,‏ وفي حال انفصال عنها‏.‏ كما أن التمثيل في البرلمان يعزز إمكانيات تدعيم التطور الديمقراطي بشكل تدريجي‏.‏ فقوي المعارضة الشرعية يفترض أن تدخل تحت سقف البرلمان وتناضل من داخله‏,‏ ولعل مقاطعة انتخابات‏1990‏ خير برهان علي ذلك‏.‏
التغير الثاني هو أن الانتخابات المصرية سوف تجري وسط أوسع تغطية إعلامية عرفتها مصر في تاريخها‏,‏ وعندما لا يصبح تليفزيون وإذاعة الدولة وحدهما في الساحة الإعلامية‏,‏ ولا الصحافة القومية بمفردها في ساحة الرأي‏,‏ فإن المنافسة الموضوعية بين توجهات متعددة تفرض نفسها بطريقة غير مسبوقة‏,‏ حيث بات من المستحيل ألا يجد صاحب رأي مكانا لعرض أفكاره مهما كانت غرابتها أو اختلافها مع الاتجاه العام‏.‏ والواقع أن الصحافة والإعلام لم تعد محلية فقط‏,‏ فهناك‏690‏ محطة تليفزيونية ناطقة باللغة العربية‏,‏ فضلا عن أخريات قادمة من دول أخري لا تعرف لغة الضاد‏,‏ ومع هذا وذاك توجد صحف مطبوعة وإلكترونية من كل لون ونوع‏.‏ ومع كل ذلك يوجد مجتمع مدني محلي وعالمي سوف يفرض نفسه علي الساحة المصرية‏,‏ ويجعل المراقبة الأجنبية للانتخابات واقعة سواء وافقت عليها أحزاب الوطني والوفد والتجمع والناصري أو رفضتها‏.‏
تغيير ثالث لا يقل أهمية عن كل ما سبق طرأ علي الساحة السياسية المصرية ويقدم لعملية التطور الديمقراطي في البلاد‏,‏ وهو ما جري علي الحزب الوطني الديمقراطي من تغيرات كبيرة خلال الأعوام الماضية‏,‏ حيث بلغ عدد أعضاء الحزب الوطني قرابة ثلاثة ملايين نسمة‏,‏ ودخل أكثر من مليون شاب الحزب حتي باتت الشريحة العمرية من‏18‏ إلي‏40‏ سنة تمثل‏65%‏ من أعضاء الحزب‏,‏ ومن هم في الشريحة العمرية من‏40‏ إلي‏60‏ سنة يمثلون‏30%,‏ ومن هم أكبر من‏60‏ سنة نسبتهم‏5%,‏ وهو ما يعني أن جيلا من شباب المصريين قد أصبح يمثل الغالبية في الحزب‏.‏
أما بالنسبة للخلفية التعليمية والمهنية لأعضائه‏,‏ فيبلغ عدد الحاصلين علي الماجستير والدكتوراه في الحزب‏6700‏ شخص‏,‏ يمثلون فئات مهنية متعددة‏,‏ تضم أساتذة جامعة ورجال أعمال وأطباء ومهندسين وصحفيين ومحامين وضباطا متقاعدين وموظفين‏,‏ قاموا بإعداد دراسات وبحوث وسياسات تخص الكثير من أمور المجتمع والدولة مثل التعليم والصحة والتأمين والمرأة والطفل والعشوائيات والطاقة‏.‏ كما أنه قد حدثت نقلة في البنية التنظيمية للحزب الوطني‏,‏ وأبرزها الأخذ بالمجمع الانتخابي الذي يختار مرشحي الوطني في المحافظات‏,‏ بما يجعل أعضاء الحزب يخوضون انتخابات داخلية شرسة قبل أن يدخلوا معركة البرلمان ويتسم باختياره للعناصر التي يغلب عليها الكفاءة العلمية والسمعة الطيبة والخدمة المتواصلة لأبناء الدائرة ومدي الالتزام الحزبي لديهم‏.‏
معني ذلك أن الحزب الوطني الديمقراطي قد بات جاهزا لمنافسة ديمقراطية شريفة ونزيهة مع الأحزاب الأخري والمستقلين‏,‏ رغم أن الحزب جري عليه ما جري علي الأحزاب التي توجد في السلطة حيث تتأثر شعبيتها نتيجة تحملها للمسئولية‏,‏ فبينما حصل الحزب‏(‏ بقوته الأساسية‏)‏ علي‏40%‏ من الأصوات في عام‏1995,‏ فإنه حصل علي‏38%‏ عام‏2000‏ و‏32%‏ عام‏2005;‏ قبل عوده مستقليه للانضمام إليه‏,‏ ولعل ذلك هو ما تدركه تماما أحزاب المعارضة مثلما يدركه الحزب الوطني التي عليها‏,‏ وهي تسعي إلي كسب أصوات الناخبين‏,‏ أن تفكر أيضا في أن هناك المستقلين الذين يجدون السياسة المصرية مجالا لتحقيق الخدمات لمواطنهم الانتخابية‏,‏ ويوجد لديها نزعة دائمة ضد كل من يهدد استقرار البلاد وسيرها الطبيعي نحو التقدم‏.‏
ما جري عمليا خلال الفترة القصيرة الماضية أمران‏:‏ الأول هو هزيمة اتجاه المقاطعة‏,‏ ومعه كل من حاولوا الدفع بالبلاد إلي لحظة ثورية لم ترغب فيها أبدا‏.‏ وببساطة فإن الجسد السياسي المصري أثبت‏,‏ كما كانت الحال دائما‏,‏ أنه يرفض وينبذ الهوامش والحواشي وحركات الاحتجاج العديدة التي نشأت لتحقيق مطالب ظرفية ووقتية‏,‏ بسبب صغر الحجم العددي‏,‏ وضعف آليات العمل الاحتجاجي الذي يقومون به‏,‏ وغياب المؤسسية التي تدير الخلافات الداخلية التي سرعان ما تظهر بحثا عن النجومية أو نتيجة الميل الطبيعي للمزايدة السياسية‏.‏ والثاني هو بزوغ تحالف مدني واقعي يصحح بعض نتائج ما جري في الانتخابات التشريعية لعام‏2005‏ عندما بزغت عنها حالة استقطاب حادة بين الحزب الوطني الديمقراطي من ناحية داعيا وحده تقريبا إلي الدولة المدنية‏,‏ والإخوان من ناحية أخري داعين صراحة في البرنامج الوحيد الذي قدموه للساحة السياسية إلي دولة دينية صريحة‏.‏ مثل ذلك من استقطاب كان مثيرا للقلق‏,‏ وربما كان سببا في ظهور الهوامش السياسية التي خدعت بضجيجها حتي شخصية مرموقة ومحنكة مثل الدكتور محمد البرادعي الذي كان ممكنا أن يكون إضافة للتطور الديمقراطي المصري لو أنه كان مستوعبا للكتاب المصري وعلي استعداد للمشاركة في التطور الديمقراطي من خلال القنوات الشرعية‏.‏
ولكن قدر الله وما شاء فعل‏,‏ ومع نهاية معركة المقاطعة وعودة السياسة المصرية إلي قنواتها الطبيعية‏,‏ فإن المهمة الأساسية خلال المرحلة المقبلة قبل وأثناء الانتخابات التشريعية هي العمل من أجل انتخابات نزيهة ونظيفة من كل شك ومزايدة‏,‏ وأن يكون الأمر كله منافسة حول تحديد مسار الدولة المصرية خلال المرحلة المقبلة التي قد تمتد حتي الانتخابات الرئاسية‏.‏ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‏!!.‏
[email protected]

المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.