«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
من الخطر الأخضر إلي الأمل الأخضر؟‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 01 - 2010

سببان يدفعان إلي كتابة هذا المقال في هذا التوقيت‏:‏ أولهما أن تراكم الأحداث والعمليات الإرهابية الكثيرة واستعادة تنظيم القاعدة لحيويته التنظيمية والعسكرية في مناطق أخري في الصومال واليمن‏. تضاف إلي موطنه الأصلي في أفغانستان وباكستان قد أعاد من جديد‏-‏ علي استحياء أحيانا وبسوقية كبيرة في أحيان أكثر‏-‏ تعبير الخطر الأخضر حيث المسلمون يمثلون خطرا علي الحضارة الغربية والعالمية‏.‏ تفاصيل ذلك ليس مكانها هنا‏,‏ ولكن الحاصل هو أن جماعتنا العربية والإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها باتت موضوعا ممثلا لتهديد من نوع أو آخر مادامت الأخبار والأنباء لا تحمل للدنيا من ناحيتنا إلا أشخاصا من أمثال فاروق عمر عبد المطلب الذي حاول اختطاف طائرة أمريكية وتفجيرها في مدينة ديترويت الصناعية‏;‏ أو موضوعات مثل النقاب وكل أنواع الأقنعة التي تخفي وتخيف مما وراء الحجب‏.‏
وثانيهما أنه وسط أحداث كثيرة مهمة وجوهرية مثل التي تجري في السودان عند حدود مصر الجنوبية‏,‏ وعند قطاع غزة علي حدود مصر الشمالية الشرقية‏,‏ فإنه لا ينبغي أبدا نسيان قضية التنمية في البلاد لأنها في النهاية هي الأصل في قدرة مصر الاقتصادية والعسكرية علي مواجهة كل التحديات والتهديدات لأمنها القومي‏.‏
وبهذه بالمناسبة فقد عثرت في مكتبتي علي كتاب الساخن‏,‏ والمسطح‏,‏ والمكتظ‏:‏ لماذا نحتاج إلي ثورة خضراء‏,‏ وكيف نستطيع تجديد أمريكا؟ للكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان والذي طالب فيه الإدارة الأمريكية والشعب الأمريكي بشن ثورة خضراء أو حسب تعبيره نداء شفرة خضراء أو‏CodeGreen‏ تعطي أملا للإنسانية في التعامل مع قضايا متعددة تخص كوكب الأرض والبشر القاطنين عليه حيث تعد المشكلات البيئية‏,‏ خلال السنوات الماضية‏,‏ واحدة من التهديدات غير التقليدية التي تواجه أمن الدول والمجتمعات‏,‏ بصورة لم تتعود علي التعامل معها من قبل‏.‏ فقد تزايدت حدة التأثيرات الناجمة عن التغير المناخي والاحتباس الحراري والنمو السكاني السريع والإسراف الاستهلاكي للطاقة‏,‏ لدرجة أن هناك من يزعم أننا نعيش عصر المناخ‏climateera.‏
المهمة هنا حسب ما يري فريدمان أن يتحول منهج الولايات المتحدة إزاء نفسها ونحو العالم مما أسماه مقتربا يعتمد علي الخوف والخطر أو الشفرة الحمراء‏CodeRed-‏ هو نداء تستخدمه الوحدات العسكرية في لحظات الخطر العظمي التي تهدد بفنائها‏,‏ وجري استخدامه خلال فترة إدارة جورج بوش والحرب ضد الإرهاب إلي منهج يعتمد علي حل مشكلة الغذاء العالمية وأزمة الطاقة ومواجهة حالة الاحتباس الحراري‏,‏ وباختصار إنقاذ كوكب الأرض‏.‏ لكن ما يلفت النظر حقا في كتاب فريدمان هو اعتباره مثل هذا التحول سبيلا لبقاء الولايات المتحدة قوة عظمي في العالم لأنها بذلك تكون قد خلقت مجالا كبيرا للنفوذ والتأثير والغني والثروة والمجد الأخلاقي يضعها في المقدمة بين دول العالم الكبري‏.‏
وبدون الدخول في كثير من التفاصيل يناقش فريدمان في هذا الكتاب تحديين كبيرين يواجهان الولايات المتحدة في وقت هي غير مؤهلة فيه بعد للتعامل معهما‏;‏ التحدي الأول يتمثل في فقدان الولايات المتحدة غاياتها الوطنية بعد أحداث‏11‏ سبتمبر‏2001,‏ ويتمثل التحدي الثاني في الأزمة البيئية التي يواجهها العالم‏,‏ ويفترض فريدمان أنهما تحديان مترابطان‏.‏ فبعد أحداث سبتمبر ضلت الولايات المتحدة طريقها‏,‏ وتحولت من دولة تصدر الأمل وتستورد آمال الملايين‏,‏ إلي دولة تصدر مخاوفها‏,‏ وفصلتها هذه الأحداث عن أصدقاءها وعن حلفائها‏;‏ وداخليا فإنها أرجأت خلال العقود الثلاث الماضية تنفيذ العديد من الإصلاحات‏,‏ منها إصلاح نظام الهجرة‏,‏ ونظام الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية‏.‏ وتزامن ذلك مع تفاقم مشكلات العالم‏,‏ والتي حددها في ثلاثة نقاط التقاء‏Convergence:Three:‏ الحرارة‏,‏ والازدحام‏,‏ والتسطح‏,‏ وهي ناتجة عن الاحتباس الحراري‏,‏ والاتساع في حجم الطبقة الوسطي في كل دول العالم بسبب العولمة‏,‏ وارتفاع معدلات النمو السكاني‏,‏ والذي يؤدي إلي عدم الاستقرار‏,‏ وهذا كله يؤدي إلي عدم استقرار موارد الطاقة وزيادة انقراض الحيوانات والنباتات‏,‏ ويزيد من حجم الفاقد من الطاقة‏,‏ ويزيد من قوة الديكتاتوريات البترولية ومن التغير المناخي‏.‏
في ظل هذا الوضع يري فريدمان أن علي الولايات المتحدة أن تغير من سياساتها في التعامل مع مشاكل العالم ومشاكلها الداخلية‏,‏ مستغلة ما يعج به المجتمع الأمريكي من حيوية من الأسفل يقودها المبدعون والمثاليون القادرون علي إعادة بناء الدولة الأمريكية‏,‏ واسترجاع وإحياء شيء يعرفونه ويشعرون بأنه تدهور‏,‏ بحيث يكون تغيير السياسات في اتجاه استعادة مكانتها‏,‏ وقيادة العالم لحل مشاكله‏,‏ وهذا يتطلب تطويرا في الأدوات‏,‏ والنظم‏,‏ ومصادر الطاقة‏,‏ والقيم التي تسمح للكون بأن ينمو بطريقة أنظف وأكثر استدامة‏.‏
هذه السياسات الخضراء‏,‏ كما يقول‏,‏ كفيلة بتعبئة المجتمع الأمريكي لاستعادة مكانة الولايات المتحدة في العالم‏,‏ فخلال الستينيات نجح اللون الأحمر كرمز للتهديد الشيوعي في تعبئة الأمريكيين ودفعهم للابتكار والتفوق‏.‏ والآن فإن تبني الرمز الأخضر من شأنه أن يحدث ثورة خضراء في المجتمع الأمريكي وفي العالم‏,‏ وسيكون لها أثر لم تخلفه أي ثورة أخري شهدها العالم في الماضي‏.‏ وتبني هذه السياسات سيسمح بتعزيز قيادة الولايات المتحدة للعالم‏,‏ وبتعزيز روح الابتكار والتواصل‏,‏ بحيث تبتكر الولايات المتحدة طاقة نظيفة ونظم طاقة عالية الكفاءة‏,‏ وتلهم البشر بالقيم اللازمة للحفاظ علي الطبيعة‏,‏ والتي هي في خطر متزايد‏,‏ وبحيث تحقق اختراقات هائلة في الطاقة النظيفة واحترام الغابات والمحيطات في العالم‏.‏
المسألة إذن ليست تنموية فقط بالنسبة للولايات المتحدة‏,‏ وهي كذلك بالنسبة لمصر والدول العربية الأخري‏,‏ حيث يكون تخضير الصحراء الممتدة إلي ما لا نهاية هي الأمل الأخضر الذي نصدره إلي العالم‏,‏ وهي كذلك مصدرا للقوة التكنولوجية وتعميقا لعملية التنمية والأمن بأشكاله المختلفة‏.‏ وبصراحة فإذا كنا قد ضاعت علينا ثورات تكنولوجية عالمية سابقة عجزنا عن اللحاق بها عند حدوثها وانتظرنا حتي تأتي لنا منتجاتها من دول وعوالم أخري فربما يكون ملائما هذه المرة أن نلحق بالثورة الزراعية القادمة ولا نجعل انخفاض أسعار السلع الزراعية الحالي يخفي عنا ما جري لنا في السابق من ارتفاع هائل في الأسعار‏,‏ وما سوف يتكرر في المستقبل إذا لم نتبني السياسات الملائمة‏.‏
ويبدو أنه بعد أن دخلت ثورة المعلومات إلي حالة النضج التي وصلت إليها‏,‏ وما بقي بعدها هو تطبيقات مثيرة وخارقة‏,‏ فإن إنقاذ العالم ونحن معه‏,‏ سوف يتوقف علي العودة إلي أولي الحرف الإنسانية وهي الزراعة حيث تكاد تجمع الدراسات والبحوث علي أن العالم يمر الآن بمرحلة يحتاج فيها إلي سياسات مدروسة تجاه كل التقنيات البيئية والزراعية من أجل الحفاظ علي كوكب الأرض وسكانه‏,‏ فثورة خضراء أكثر‏-‏ وفقا لتوم جيان أحد أساتذة الاقتصاد الزراعي المرموقين في جامعات ميتشجان بالولايات المتحدة وكذلك بيتر هازل الخبير في المعهد الدولي للبحوث الزراعية‏-‏ ملائمة للبيئة وهي أمر مجدي وضروري‏.‏
والحقيقة أنه ربما لم تكن هناك صدفة أن يجري إلهاب خيال العالم حول المسألة الزراعية من خلال فيلم سينمائي مثير للغاية هو فيلم أفاتار الذي حقق إيرادات هائلة في عالم الشمال بأسره‏,‏ وفي مصر بالمناسبة‏,‏ وهو يدعو إلي حماية البيئة التي تعيش عليها الإنسانية قبل أن تنهار تحت معاول المزيد من المتغيرات الصناعية‏.‏ وما لدينا هنا في الفيلم الذي أخرجه صاحب تايتنك‏-‏ جيمس كاميرون‏-‏ الذي كان في جوهره استعادة الذاكرة لحالة غرق للإنسانية من خلال ما تصورته تفوقا علميا صناعيا لا يباري‏,‏ هو هذه المرة عودة إلي كوكب يماثل حالة الأرض في حالتها الأولي حيث تعرف المخلوقات العاقلة التي تعيش عليه كيف تتعامل مع الطبيعة وتحافظ عليها‏,‏ وحتي تحميها من مخلوقات غير عاقلة أخري مثل الإنسان تأتي لدمارها من أجل مواد أولية نادرة‏.‏
الفن إذن لم يأت صدفة‏,‏ وإنما جاء في وقت يبحث فيه العالم عن حلول لازمات حالة وملحة‏,‏ وما قيل عن قرب ذوبان الثلوج علي قمم جبال الهملايا ليس محض خيال‏.‏ ولحسن الحظ أن ما يجري في الدنيا ليس بعيدا عن أذهان المصريين‏,‏ أو بعضهم علي الأقل‏,‏ ويبدو أن هناك شيئا يجري في مصر لا يلتفت أحد إليه بدرجة كافية حيث تزايد الاهتمام من قبل الحكومة المصرية بالتوسع في استصلاح الأراضي وزيادة المساحات الخضراء وإدخال الأساليب الجديدة في الزراعة والري في البلاد‏,‏ وهو ما يعبر عنه البعض بالقول تخضير الرمال في مصر‏.‏ فقد كانت هناك أراضي قاحلة ثم صارت صالحة لزراعة أي شئ عليها‏,‏ وخلال العقود الثلاثة الماضية انعكس الاتجاه إلي تناقص مساحة الأرض الزراعية التي كادت تتجمد عند حدود ستة ملايين فدان تتناقص سنويا بما مقداره‏60‏ ألف فدان نتيجة التوسع الحضري‏;‏ إلي التوسع في الأرض الزراعية حتي وصلت إلي‏8.5‏ مليون فدان ساهمت في التعامل مع أزمة الغذاء وزيادة الصادرات الزراعية المصرية ومضاعفة إنتاج الحبوب السنوي وزيادة دخول الفلاحين وتحسين مستويات معيشتهم‏.‏ ومن يسافر عل طريق القاهرة‏-‏ الإسكندرية الصحراوي‏,‏ ربما يجد من الخضرة والتنمية الزراعية ما هو أكثر من الاعتقاد الشائع أن لا شيء يجري علي أرض مصر‏.‏
ويشير اتجاه تخضير مصر أيضا لمواجهة الضغوط التي تولدها المشكلة السكانية‏,‏ حيث تعد مدينة مثل القاهرة واحدة من أكبر المدن ازدحاما بالسكان علي مستوي العالم‏.‏ وهناك توقعات تشير إلي تضاعف عدد سكان مصر بحلول العام‏2050;‏ ولم يعد ذلك حالة مصرية بقدر ما يعبر عن أزمة عالمية حيث يتصاعد الاختلال بين مصادر الغذاء من ناحية وعدد السكان من ناحية أخري‏,‏ وما بين البشر وقدرة الطبيعة علي تحملهم‏.‏ ويبدو أيضا أن الاهتمام المجتمعي بالبيئة بدأ يتغير في مصر ولو بشكل بطئ نسبيا حيث يعمل واحدا من الأحزاب السياسية القائمة علي تفعيل الاهتمام بالقضايا البيئية في مصر وهو حزب الخضر‏.‏ وخلال العام الماضي‏,‏ بدأت جمعية المكتب العربي للشباب والبيئة فعاليات الحملة السنوية الموجة الخضراء بهدف رفع الوعي لكل فئات المجتمع خاصة فئة الشباب والأطفال بعدد من الأنشطة المختلفة منها حملات توعية وحملات زراعة الأشجار ورسائل إعلامية تؤكد أن الشباب والأطفال يريدون العيش في مناخ صحي قائم علي وجود مساحات واسعة‏.‏
ويبدو أن المسألة لم تعد قاصرة علي نشر الوعي بالقضية بل أن هناك عددا من التطبيقات العملية التي تحاول الخروج من أزمة الغذاء والبيئة عن طريق حلول مبتكرة وذات قيمة في السوق الاقتصادية‏.‏ وقد تلقيت تقريرا منذ أيام قليلة ماضية بعنوان إعادة تدوير المخلفات الزراعية وخلق مزارع بيئية متكاملة وهو عبارة عن حصيلة دراسة لفريق عمل من الباحثين والخبراء قادته الأستاذة راوية منصور جاء فيه أنه مع التزايد السكاني السريع والتطور التكنولوجي والصناعي الهائل‏,‏ تزداد التأثيرات الضارة علي صحة الفرد‏,‏ الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في علاقة الفرد بالبيئة المحيط به‏.‏ وتظهر هذه المشكلة في مصر بشكل ملحوظ حيث يلجأ الكثيرين إلي التخلص من المخلفات عن طريق الحرق مما يؤدي إلي أضرار جسيمة علي مستوي صحة المواطن والتربة الزراعية والبيئة بوجه عام‏.‏
وتدور الفكرة الرئيسية للتقرير حول إمكانية الاستفادة من المخلفات الزراعية من خلال إنشاء مصانع لتدوير المخلفات لإنتاج أسمدة عضوية‏,‏ تستخدم في إنشاء مزرعة بيئية متكاملة في الأراضي الجديدة المستصلحة في الصحراء لزراعة منتجات عضوية صحية ذات جودة عالية‏,‏ الأمر الذي سيؤدي إلي زيادة القيمة المضافة للإنتاج الزراعي‏,‏ وتحسين دخول المزارعين‏,‏ والقضاء علي مشكلات المخلفات الزراعية‏,‏ والحفاظ علي البيئة وتوفير فرص العمل للشباب في إنتاج منتجات عضوية ذات قيمة اقتصادية مرتفعة سواء في التصدير أو في السوق المحلي‏,‏ كذلك تخفيض أسعار المواد الغذائية للشعب المصري من خلال تخفيض تكاليف الإنتاج مع الحفاظ علي صحته‏,‏ وأخيرا الاستغلال الأمثل للموارد غير المستغلة وخلق مجتمعات جديدة تساعد علي الحد من التكدس السكاني في مصر وتحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية‏.‏
وللأمر بالتأكيد تفاصيل كثيرة‏,‏ ولكن الرسالة هي أنه آن الأوان لدخول الحوار العام في مصر إلي مناطق السياسات التي تتناول القضايا المختلفة الملحة علي التنمية والتقدم في مصر‏.‏ ورغم الأهمية الكبيرة لقضايا مثل الدستور والجدار والعلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل وفلسطين والعالم العربي‏,‏ فإن هناك حاجة ماسة لتناول قضايا جوهرية لا تعطي تركيزا فقط علي الداخل المصري‏,‏ ولكنها في نفس الوقت تمثل رسالة إلي العالم كله أننا جادون في المشاركة في حل مشاكل عالمية وفي المقدمة منها مشكلاتنا ومعضلاتنا نحن‏.‏ والمعني هنا أن العرب والمسلمين لا يشكلون خطرا أخضر علي دول العالم بقدر ما يمثلون أملا أخضر يقدم للإنسانية بقدر ما يأخذ منها‏.‏
أعلم أن ذلك صعب علي كثرة منا تعودت علي أن مناقشة‏-‏ إذا جاز تعبير المناقشة في هذا المجال‏-‏ المواقف والأحداث المختلفة لأنها مفرطة في السهولة‏,‏ ولها دائما جوانب مثيرة‏;‏ أما السياسات التي تغير واقعا أليما فهي تتطلب مجهودا ودراسة وعلما‏.‏ وأعلم أن ذلك صعب علي جماعة أخري منا توقف عندها الزمان لحظة ضياع فلسطين‏,‏ ولديها مقدار لا ينضب من السخط والغضب يجعلها عاجزة عن رؤية ما عداها من قضايا ملحة‏.‏ ولكن الأمر لم يعد هناك مفر من مواجهته‏,‏ والآن وليس غدا‏;‏ وإذا كانت الولايات المتحدة بكل ما لديها من قدرات تبحث في الثورة الزراعية عن مصادر للقوة‏,‏ فربما كانت هذه الثورة واحدة من مسببات تقدمنا بالإضافة إلي ما نعرفه من مسارات أخري في التعليم والتصنيع والتكنولوجيا‏.‏
[email protected]

المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.