لم أفاجأ برد الفعل العام علي قرار المحاكم بإقرار حق طائفة من المصريين بأن يضعوا في خانة الديانة ببطاقتهم الشخصية "البهائية" باعتبارها المعبرة عن العقيدة الخاصة. فما أن أصدرت المحكمة قرارها حتي انفجرت برامج تليفزيونية لا تكف عن الحديث عن الديمقراطية والحقوق الفردية حتي بدأ الهجوم علي الديانة البهائية وأصلها وفصلها وما فيها من هرطقات دينية وعقيدية. وشارك هذه البرامج صحف ديمقراطية وليبرالية مضيفة لإدانة الدين إدانة النظام الذي سمح بالوصول إلي تلك النقطة من المواقف القضائية التي أباحت ما لم يكن واجبا إباحته. ثم التقط مجلس الشعب الخيط، وبدأ الهجوم من زوايا مختلفة علي الدين والنظام، وبعد الهجوم جاءت المطالبة الفورية بوقف ما وصل إليه القضاء المصري باعتبار أن ما توصل إليه مناف لأسس الدولة وعقيدتها.فقد كشف رد الفعل المبالغ في حماسه ضعف الفهم المصري العام لدستور البلاد من ناحية، ومبدأ الحرية الشخصية من ناحية أخري، وفي النهاية الضعف البالغ للحصافة وفهم الاعتبارات العملية والمعالجة السياسية للموضوع. وبداية فإنني لا أعرف شيئا عن الديانة البهائية، ولا يهمني معرفة ما فيها لأنها في كل الحالات تخص المعتقدين فيها ولست من بينهم. وطالما أن عددا كبيرا من بلاد العالم يسمح ويعترف بالديانة البهائية فإن معني ذلك أنها ليست من الديانات التي تدعو للاعتداء علي الآخرين أو بتهديد النظام العام بأي شكل علني أو خفي وأن أنصارها يعترفون ويقرون بالنظام العام للبلاد، وكل ذلك يكفي للاعتراف بها. وما أعرفه قطعا هو أن الدستور المصري يتحدث وينص بجلاء علي حرية العقيدة. ورغم أنه في الديباجة الخاصة بالدستور يتحدث عن "القيم الروحية" فإنه لم يحدد مصدر هذه القيم الروحية، كما أنه لم يقصرها لا علي الدين الإسلامي ولا علي الديانات السماوية تحديدا. صحيح أن الدستور أعطي الديانة الإسلامية باعتبارها دين الأغلبية نوعا من التميز عندما جعله دين الدولة الرسمي، وجعل "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وهي مبادئ لم ينكر أحد إمكانية وجودها أو ما يماثلها في ديانات أخري، كما أنه في كل الأحوال أصر علي أمرين: أولهما الحرية في الاعتقاد وهو ما ينطبق عليه كل ما ينطبق علي الحريات الأساسية الأخري مثل حرية التعبير من أنه لا يخل بالنظام العام ولا يعتدي علي حريات الآخرين. وثانيهما أن الشعب هو مصدر السلطات بمعني مشاركة الشعب كله حسب معتقداته المختلفة في السيادة العامة صاحبة الحق في اتخاذ القرار. وتقول المادة الثامنة من الدستور "تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين"، وطالما أن دين كافة الموطنين مذكور في البطاقة الشخصية، فإن " التكافؤ " يقضي بذكر الديانة التي يراها الشخص ديانته بما فيها البهائية. وتقول المادة 40 من الدستور " المواطنون لدي القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة ". مثل هذا النص الدستوري واضح لا غموض فيه، فلا يجوز التمييز إطلاقا بسبب العقيدة، وتضيف المادة 46 بلا لبس "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية". وفي كل المجتمعات الديمقراطية والليبرالية في العالم فإن حرية الاعتقاد جزء أساسي من حريات الإنسان الأساسية، بل إن المجتمعات الديمقراطية والليبرالية قامت في الأساس لمواجهة عنت وظلم جماعات دينية لجماعات دينية أخري اختلفت معها في العقيدة. فلقد اكتشفت كافة المجتمعات أن "العقيدة" مسألة خاصة بالإنسان وحرياته الأساسية ولا يمكن إخضاعها لأحكام الصواب والخطأ أو الحلال والحرام والصحة والزندقة حيث تختلط الأهواء بالأحكام والديني بالدنيوي. ولذلك فقد بات جزءا من عملية تطور الدولة الحديثة، بل باتت جزءا من الحكم علي الدول المتحضرة، وتكاد تجتمع علي هذا المبدأ كافة المواثيق الدولية والعهد الدولي لحقوق الإنسان خاصة. وهو مبدأ لم يكن يخص فقط بلدان العالم التي توجد فيها أغلبية من ديانات سماوية وأقليات من ديانات غير سماوية، بل أيضا البلاد التي حدث فيها العكس. فالحقيقة أن الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام لا تشكل أغلبية البشرية وإنما ديانات أخري غير سماوية مثل الهندوسية والبوذية والشنتوية وديانات أخري كثيرة. وفي بلدان مثل الهند والصين توجد أقليات إسلامية كبيرة وسط أغلبية ساحقة من الهندوس والبوذية والكونفوشوسية، كما توجد أقلية مسيحية معتبرة وسط أغلبية شنتوية في اليابان. وقد حمي الإسلام والمسيحية في هذه البلدان مبدأ حرية الاعتقاد الخاص بكل فرد دون تدخل من الأغلبية أو السلطات العامة. ومن هنا تبرز اعتبارات عملية تخص المسلمين في جميع أنحاء العالم، ومدي استعداد الدول الإسلامية لكي تحترم كما تحترم دول العالم الأخري مبدأ حرية الاعتقاد والإيمان الخاص بكل فرد. وربما يدهش كثيرين معرفة أنه في جمهورية إيران الإسلامية لا يزال هناك اعتراف رسمي واحترام لوجود ديانات مثل المجوسية والزرداشتية. فالمسألة هنا ليست المشاركة بالإيمان مع أنصار أديان أخري، ولكنها الإيمان الذي لا يتزعزع بحق إنسان في اتباع العقيدة التي يريد الانتساب لها. ولا يصح في هذه الحالة المحاجاة بالميتافيزيقا الموجودة في كل دين، ولا بالتاريخ الخاص بكل دين، لان ذلك ليس هو القضية وإنما حق الاعتقاد هو أصل القضية والموضوع. كل ذلك يضع الجماعة السياسية كلها موضع الاختبار فيما يتعلق بقيمها الليبرالية ومدي تمسكها بالحريات العامة، فالمسألة ليست فقط حرية الحديث ضد الحكومة، أو رفضا للنظام السياسي، أو إدانة لعمليات الاعتقال والتعذيب، ولكن القيمة الحقيقية للإيمان بالحرية تكون عندما يكون الأمر متعلقا بالمختلفين مع الأغلبية الساحقة في الرأي والاعتقاد. فعند هذه اللحظة تحديدا يبرز معدن الديمقراطية والليبرالية والإيمان بحقوق الإنسان، فهي ليست لحظة تحديد ما هو الدين الصحيح، ولا الدين المقبول، ولكنها اللحظة التي يعترف فيها للآخرين مهما كانت قلة عددهم وحيلتهم في اعتقاد ما يرونه ملائما لسلامهم الروحي. والحقيقة أن رفض حق الاعتقاد كثيرا ما يبدأ بالرفض والاضطهاد وعدم القبول بالأقليات القليلة المؤمنة بديانات أخري، وما أن يستقر هذا المبدأ حتي تذهب الأغلبية بعيدا بحق الأقلية في اتباع دينها أو تعتبر ذلك نوعا من المنح والتنازلات، وما أن يتم ذلك حتي تتحرك مذاهب الأغلبية داخل الدين الواحد لكي تفرض منطقها "الصحيح" علي الآخرين الذين ضلوا سواء السبيل، فإذا ما اكتمل ذلك حتي تأتي "الجماعة الناجية من النار" لكي تجهز علي الجميع. ولا خلاص من هذا المسلسل المخيف سوي بالتمسك بحرية الاعتقاد، والمساواة في الحقوق الأساسية للمواطنين دون تفرقة مبنية علي أساس من الدين أو الاعتقاد.