خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ووزيرة الخارجية كوندليزا رايس إلي العراق اعتقد العديد من مسئولي وزارة الخارجية أن ما يرون بأم أعينهم هو رجل هرِم وغريب الأطوار ترافقه صبية نشطة وفعالة. فقد صدر الأمر لرامسفيلد من الرئيس بالذهاب إلي العراق، إلا أنه ما إنْ وصل حتي بدا عليه الفتور إزاء قضايا إعادة الإعمار، بل ظهر كمن يترك ل "رايس" إدارة العرض لكن علي مضض. وقد لا حظ الجميع كيف كان رامسفيلد منزعجاً بعد قضائه ليلة شاقة علي متن الطائرة التي أقلته بمعية "رايس" مباشرة من واشنطن إلي بغداد، حيث بُهت مساعدو "رايس" وأصابهم الذهول جراء المعاملة الأقل من محترمة التي عاملها بها وزير الدفاع، بينما كانت هي تحاول الظهور بمظهر الصبية المتحمسة والمتفائلة بقسماتها الآلية حيال ما اعتبرته فرصة العراق الأخيرة. وعندما سأل أحد المراسلين رامسفيلد عن تصريحات "رايس" السابقة التي تحدثت فيها عن ارتكاب "آلاف" الأخطاء التكتيكية في العراق، رد الوزير قائلا "بصراحة، لا أعرف شيئاً ما الذي كانت تتحدث عنه"، ما يعني أن أي شخص تلفظ بكلام "رايس"، إنما "يفتقد إلي الفهم" بشأن القضايا العسكرية. وعلي أي حال فالوزيرة "رايس" ليست في نظره سوي فتاة بليدة، ما جعل رامسفيلد يعجز عن التصرف بدبلوماسية مع رئيسة الدبلوماسية الأمريكية نفسها. وقد زاد رامسفيلد الطين بلة عندما استطرد مشيراً بأصابعه إلي "رايس" قائلاً: "ها هي أمامكم يمكنكم أن تسألوها". وبالطبع لم تجد "رايس" من مخرج سوي التخفيف من معني الأخطاء موضحة أنها لم تقصد "أخطاء بالمعني العسكري"، لكن ما لا بد أن تكون قد قصدته فعلاً هو سوء القيادة المدنية للمؤسسة العسكرية وتدخلها في تفاصيلها. بيد أن رامسفيلد الذي أطلق عليه بوش مرة "معبود الصباح"، تحول اليوم إلي شخصية عبثية إذ مازال متمسكاً بمنصبه رغم فتح بعض الجنرالات المتقاعدين جبهة المواجهة معه، متسائلين عن مدي نجاح حربه علي الإرهاب. فخلال زيارته النادرة والقصيرة إلي بغداد لم يجرؤ وزير الدفاع علي الخروج من المنطقة الخضراء، في وقت لا يكف فيه عن الصياح بأعلي صوته في البرامج التليفزيونية المحافظة منوهاً بالتقدم المحرز في العراق، وموجهاً لومه إلي التغطية الصحفية التي تغفل عن نقل الأنباء السارة. لكن إذا كانت هناك فعلاً أنباء سارة، فلماذا لم نر رامسفيلد يتجول في أقرب مركز تجاري ببغداد، بدلا من الاختباء في إحدي القواعد العسكرية الأمريكية التي أطلق عليها للمفارقة اسم "معسكر النصر". وفي مظهر آخر من مظاهر الفهم العميق للثقافة العراقية حل الوزيران الأمريكيان ضيوفاً علي بلاد الرافدين، وهما يجهلان حتي الاسم الصحيح لدميتهم الأخيرة في العراق. فقد تبين أن جواد المالكي، رئيس الحكومة المكلف ليس سوي اسم حركي عرف به في المنفي، وأن اسمه الحقيقي هو نوري كمال المالكي. هذا وقد ظل رامسفيلد ينفي وجود حرب أهلية في غمرة الاحتفال بالذكري الثالثة "لإعلان انتهاء الحرب في العراق"، وذلك بالرغم من المواجهات اليومية بين العصابات المسلحة سواء الشيعية منها أو السنية وترويعها للأهالي. والأدهي من ذلك عندما سئل رامسفيلد من قبل أحد المراسلين عما ستقوم به الولاياتالمتحدة للسيطرة علي الميليشيات ووضع حد للاقتتال الطائفي رد بصراحة تصل حد الفجاجة: "أعتقد بأن أول شيء يجب توضيحه، هو أننا لن نقوم بذلك أصلاً، لأن العراقيين من سيتولون الأمر. ففي النهاية العراق بلدهم، وهو بلد يتمتع بالسيادة. كما أن الحكومة الحالية ليست مؤقتة، ولا تمر بمرحلة انتقالية، إنها هنا لتبقي في السلطة لعدة سنوات. وهي من دون شك قادرة علي معالجة القضايا المتعلقة بتوفير الأمن لشعبها". أجل لنترك الأمر إلي رئيس الحكومة العراقية الذي لا نعرف اسمه. وإذا كنا قد أفسدنا الوضع بتدخلنا، فإنه يمكن لمن لا نعرف اسمه أيضاً أن يحل المشكلة ويرجع الأمور إلي نصابها. بيد أن تصريحات رامسفيلد حول الأمن والسلام السائدين في العراق تكذبها الحكومة نفسها. فقد أفاد تقرير أصدرته وزارة الخارجية حول الإرهاب العالمي بأن ما لا يقل عن 8300 مدني عراقي لقوا حتفهم علي يد المتمردين، وهو ما يشكل أكثر من نصف الضحايا الذين قتلوا جراء الإرهاب في العالم. أما الانتخابات، فقد فشلت فشلاً تاماً في وقف موجة العنف في العراق وسط أخبار تقول إن الإرهابيين بصدد تحويل محافظة الأنبار إلي معقل آخر لتنظيم "القاعدة". وعلي الجانب الأمريكي كان شهر ابريل الماضي أحد أكثر الشهور دموية خلال هذه السنة، حيث لقي فيه 67 جندياً أمريكياً مصرعهم. وفيما سعي "صقور" الرئيس بوش إلي استرجاع عقيدة ريجان المثالية في السياسة الخارجية، بخلاف الواقعية السياسية التي تبناها الرئيس وبوش الأب، بدأ الكونجرس الأمريكي يكثف من ضغوطه للتخلي عن سياسة "الصقور". وفي ظل تعقد الوضع في العراق لم يجد بوش من حل سوي إرسال جيمس بيكر وهو أحد مستشاري والده إلي العراق أملاً في العثور علي مخرج. أما علي الصعيد الإيراني فقد لجأت الإدارة الأمريكية للجم طموحاتها النووية إلي الاستعانة بالأطراف الدولية نفسها التي همشتها قبل الحرب علي العراق متمثلة في الأممالمتحدة، والمفتشين الدوليين. هذا الرجوع عبرت عنه كوندوليزا رايس بشكل واضح عندما أقرت بأن "مجلس الأمن هو أهم مؤسسة دولية لحفظ السلام والاستقرار والأمن، ولا يمكن تجاهل قراراته من قبل الدول الأعضاء". وبالطبع رامسفيلد لن يعجبه هذا التصريح، لكن ليس هناك في البيت الأبيض بأكمله شخصية بملامح آلية يمكنها القذف بذلك التهديد مباشرة في الوجه غير الصبية التي جاءت معه إلي العراق.