هل بدأ أركان الإدارة الأمريكية في القيام بدور حفار القبور لأنفسهم ولإدارتهم ولتوجه اليمين الأصولي المخترق من خلال ما يشبه الحرب الأهلية بين أجنحة إدارة بوش؟ منذ القدم ترسخت قناعات عند الأمم والشعوب مفادها أن كل بيت ينقسم علي ذاته يخرب وكل مملكة تنقسم علي ذاتها يصير مآلها للضباع فهل دقت ساعة انصراف هذه الإدارة الشريرة أم أن ما يجري داخلها ربما يقودنا إلي بلاء أعظم قادم في طريقه أسرع من البرق ؟ واقع الحال يشير إلي أن إدارة بوش تتعرض وبحق لما يطلق عليه في الأدبيات الغربية أحداث الساعة الحادية عشرة أي الساعة التي تسبق الانهيار الكبير فالفضائح التي ولدت معها منذ الرئاسة الأولي المشكوك فيها مرورا بأكاذيب حرب العراق وفشل الحرب علي الإرهاب أدت إلي ما يشبه الانهيار والذي تجلت ملامحه في عدة مشاهد تحملنا علي القول بان هناك حربا أهلية دائرة بين أجنحة الإدارة الأمريكية. رامسفيلد ورايس وصراع الغرماء والواقع أن أولي ملامح هذا الشقاق تجلت الأيام الماضية في الأزمة التي نشبت بين جناح الخارجية ممثلا في كونداليزا رايس وجناح الدفاع وعلي رأسه رامسفيلد احد القلائل الذين بقوا حتي الساعة في إدارة بوش ليمثلوا تيار المحافظين الجدد. بدأت المواجهة والتي كانت بالفعل حاضرة وان خفيت علي العامة من خلال الكلمة التي ألقتها رايس بدعوة من معهد "شاتهام هاوس المستقل في بلاكبرن شمال غرب انجلترا أمام نحو مائتي خبير في العلاقات الدولية ومسئولين محليين وصحافيين فقد أقرت رايس بان الولاياتالمتحدة ارتكبت أخطاء تكتيكية في العراق بالآلاف". وفي إقرارها هذا كان العالم يستمع ربما للمرة الأولي لاعتراف صريح وإقرار مريح من وزيرة الدولة التي شاركت وبقوة في اتخاذ قرار الحرب علي العراق والتي ربطت في أحاديث سابقة لها صدام حسين بتنظيم القاعدة . والمعني المباشر هو أن الخطأ في اتخاذ القرار قائم والاستمرار في الخطأ هو اصل الإشكالية في الوقت الحاضر. والحقيقة أن مشهد خطاب معهد شاتهام لم يكن إلا القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال فرايس كما تعرف اليوم في الإدارة الأمريكية أصبحت قوة ضاربة تمثل الدبلوماسية الناعمة بخلاف ما يذهب إليه رامسفيلد وصحبه من آليات لتفعيل القوة العسكرية في الخلافات الدولية . وانطلاقا من نفوذها وقوتها لا سيما لدي الرئيس بوش الذي أضحي حائرا بين رايس ورامسفيلد أصبحت اليوم تغادر الولاياتالمتحدة لأيام طوال وفي مهمات متعددة ولا تخشي أن يقفز العسكر في غيابها علي القرار الأمريكي لاختطافه وهو ما كان يخشاه وزير الخارجية السابق الجنرال كولن باول والذي كان يرفض مغادرة واشنطن دي سي لخوفه من مؤامرات بول وولفويتز وريتشارد بيرل ودوجلاس فيث ومن لف لفهم. ووصل الأمر بنفوذ رايس وجناحها إلي تعرضها لانتقادات قاسية بعض الشيء داخل أروقة وزارة الخارجية ذلك أن نائبا اتهم مقربين منها بعرقلة مهمة النواب . وقد بدا أن رايس اليوم تمثل مركز قوة طاردة لأجنحة متعددة وهو ما دعا أيضا رئيس لجنة الموافقات علي بنود الموازنة في مجلس النواب الجمهوري "جيم كولبي" لان يوجه لرايس انتقادا من أن القلق ازداد بسبب علاقة وزارة الخارجية بالكونجرس مضيفا "لقد باتت الاستجابة لطلباتنا في الحصول علي معلومات سلبية في غالب الأحيان أو تستغرق وقتا طويلا". وفيما رايس تعترف بارتكاب بلادها آلاف الأخطاء التكتيكية كان رامسفيلد في مقابلة إذاعية له بولاية داكوتا يري أن تسمية التغييرات في التكتيكات العسكرية خلال الحرب أخطاء دائمة إنما يعكس افتقارا لفهم الحرب وهو اتهام واضح يحمل في طياته تهما بجهل رايس في الشئون العسكرية. ويضيف رامسفيلد قائلا "إن العدو يراقب ما تقوم به ويتكيف بالتالي لذلك ولهذا عليك أن تكيف نفسك باستمرار وان تغير تكتيكاتك وأساليبك وإجراءاتك وإذا ما قال امرؤ حسنا أن ذلك خطا تكتيكي فأنني أخمن انه نقص في فهم ما تدور الحرب عليه علي الأقل حسب تقديري". والتساؤل ما الذي يجري بين رايس ورامسفيلد وهل هو خلاف جذري بالفعل ؟ الواقع أن الإدارة الأمريكية حاولت التخفيف من شان ما جري واستبعاد حدوث مواجهة جديدة وجدية بين الوزارتين السياديتين كما كان الحال في إدارة بوش الأولي وقد صرح المتحدث في الخارجية الأمريكية البرتو فرنانديز من قبل بقوله إن ما يجري بين الطرفين هو خلاف زوجي معتاد أما الإجابة شبه الحقيقية والتي تعكس انقسام البيت الأمريكي فقد جاءت علي لسان الكاتب الأمريكي توماس فريدمان والذي يبدو انه ينحو نحو رايس إذ يقول إن ما وصلنا إليه في العراق حتي اليوم يمكن تلخيصه في الآتي : بعد ثلاث سنوات من الحرب وإنفاق ما يزيد علي 300 مليار دولار وآلاف الضحايا من الأمريكيين والعراقيين ليس هناك حتي الآن حكومة عراقية أو جيش أمريكي يمكنه العمل من دون مساعدة القوات الأمريكية. هل يعني ما قاله فريدمان شيئا آخر سوي انه تأييد مباشر لجبهة رايس المرشحة للمزيد من المواجهة في مقابل جناح رامسفيلد؟ شقاق في العسكرية الأمريكية والمشهد الثاني ضمن سلسلة مشاهد الحديث عن الحرب الأهلية الدائرة في إدارة بوش يرشح من النظر إلي العسكرية الأمريكية والتي كانت رمزا فيما مضي لقوة أمريكا ووحدة كلمتها والتي أضحت اليوم في قطاع كبير منها بمثابة وصمة عار بسبب أفعال قيادات متعددة داخلها وعلي رأسهم رامسفيلد نفسه وقد قاد هذا إلي درجة عالية من الافتراق عوضا عن الاتفاق بين أركان الجيش الأمريكي فقد وضع رامسفيلد ومعاونوه قوانين تنتهك أمر الرئيس بوش القاضي بتوفير محاكمات عادلة للمعتقلين المشتبه في تورطهم في نشاطات إرهابية والذين يمثلون أمام المحاكم العسكرية في جوانتانامو وخلال محاكمة اليمني علي حمزة البهلول قال المحامي العسكري "توم فلينر" للكولونيل بيتر برونباك رئيس إحدي المحاكم العسكرية "لا يمكننا فعل شيء حيال إخفاق وزير الدفاع ومعاونيه ولكنهم فعلوها وإذا لم تتواجد القوانين لتوفير محاكمة عادلة فهذا يعني انتهاكهم الأمر الرئاسي". وعلي صعيد آخر فقد هاجم ثلاثة من كبار الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين سياسات رامسفيلد وأداءه العسكري لا سيما بسبب حرب العراق وطالبوا بتنحيته. أما منتقدوه فهم الجنرال المتقاعد جريجوري نيوبولد من مشاة البحرية الأمريكية والجنرال المتقاعد من الجيش بول ايتون والجنرال انتوني زيني من مشاة البحرية ويقول نيوبولد كبير ضباط العمليات في الجيش قبل حرب العراق انه يأسف لأنه لم يجاهر برأيه بقوة اكبر ضد ما يراه الآن حربا غير ضرورية وانحرافا عن الخطر الحقيقي الذي يشكله تنظيم القاعدة. بينما الجنرال ايتون والذي كان مسئولا عن تدريب الجيش العراقي في عامي 2003 و 2004 فقد كتب علي صفحات النيويورك تايمز يقول " إن رامسفيلد وضع البنتاجون تحت رحمة ألانا مضيفا أن رامسفيلد كذلك اثبت انه غير كفء استراتيجيا وتكتيكيا وهو ما ينسجم هنا مع اتهام رايس ولأنه أكثر من أي شخص آخر مسئول عما حدث في مهمتنا الهامة في العراق وعلي السيد رامسفيلد أن يتنحي. إلا أن الصراع الذي يمكن وعن حق أن يشق الجيش الأمريكي فيتعلق بمستقبل الصراع الأمريكي الإيراني القائم والقادم علي السواء لا سيما بعد ما كشف الصحفي الأمريكي الشهير سيمور هيرش عبر مجلة النيويوركر الأيام الماضية عن خطة أمريكية لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية أو ميني نووي لاختراق التحصينات الإيرانية حيث ترقد المنشآت النووية علي عمق عميق في باطن الأرض. وبمجرد الكشف عن هذه الخطة وقد كانت تلميحات وتسريبات عدة قد أشارت إليها من قبل بدأت حالة من التذمر تدب في صفوف العسكريين الأمريكيين واعتبر العقلاء منهم أن هذا الخطوة تهدد امن العالم من حيث أنها تخل بكل معاهدات حظر الانتشار النووي وتشجع دول العالم علي حيازة سلاح نووي لحماية نفسها من هجمات مماثلة والتساؤل ماذا لو كانت هذه الأنباء حقيقية؟ هل سنري معها انقساما داخل البنتاجون الأمريكي يعرقل الإقدام علي هذه الخطوة أم سيتغلب جناح رامسفيلد ويجد نفسه ثانية في مواجهة مع قيادات عاملة وفاعلة في وزارته ؟ وفي كل الأحوال فان المشهد يحملنا علي القول إلي أين ستمضي المؤسسة العسكرية الأمريكية في صراعاتها الداخلية؟ ويمكننا مما تقدم أن نقول انه إذا كانت وزارة الخارجية يحتدم فيها الجدل اليوم والخلاف يتعمق جهة وزارة الدفاع وهذه بدورها تعاني من أزمات داخلية بسبب سياسات رامسفيلد فما الذي تبقي من مؤسسات الإدارة الأمريكية؟. البيت الأبيض والمسرب الأعلي يبقي البيت الأبيض والذي بدوره يعيش أحداث الساعة الحادية عشرة ويشهد واحدا من فصول الصراع الدائر من خلال فضيحة المسرب الأعلي..... ماذا يعني ذلك؟ قبل بضعة أسابيع وعلي صفحات الخليج قلنا إن لويس ليبي مدير مكتب نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني والمتهم بتسريب اسم العميلة فاليري بلايم للإعلام الأمريكي لن يقبل أن يظل كبش فداء سواء للنائب أو للرئيس وانه ولا شك سيمضي قدما في إغراق المركب الرئاسي الأمريكي بما فيه وبمن عليه وقد أثبتت الأيام صدق ما نحونا إليه. تقول النيوزويك الأمريكية في عددها الأخير تحت عنوان "المسرب الأعلي" علي لسان مايكل ايسيكوف وايفان توماس.. يود جورج بوش أن ينظر إليه بوصفه رجلا يظل فوق توافه الحرب السياسية وقد كان قد قال انه لا يقرا الصحف و لا يبالي بانتقادات وسائل الإعلام وان هناك قوة سماوية توفر له الرشد وهدد ذات مرة بالتوقف عن كشف المعلومات للكونجرس ما لم يتوقف المشرعون عن التسريب حيث كان قد ابلغ الصحفيين في سبتمبر 2003 بان هناك ثمة عملية تسريب للمعلومات أكثر مما ينبغي وإذا حدث تسريب من موظفي إدارتي فأنني أود معرفة من المسئول عن ذلك؟ لكن ما جري الأسبوع الماضي اثبت أن بوش لم يكن يسمو فوق لعبة التسريب القديمة والتساؤل هل أعطي الأوامر لرد الهجوم علي منتقدي الاستخبارات قبل الحرب؟ والمؤكد أن موقف لويس ليبي المقرب جدا من ديك تشيني يحملنا للنظر برؤية إلي الانقسام الجديد الحاصل بعد ان المح إلي دور الرئيس في الفضيحة وهو بهذا يحمي رئيسه المباشر نائب الرئيس ويحمي نفسه ويغرق الرئيس في وحل الأزمة ففي وثيقة نشرها باتريك فيتزجيرالد المدعي الخاص المكلف التحقيق في هذه القضية يؤكد ليبي انه تلقي موافقة الرئيس عبر نائبه لتسريب معلومات مصنفة أسرار دفاع بشأن العراق. وجاء في الوثيقة ان مشاركة المتهم في حديث مهم مع جوديث ميلر في الثامن من يوليو جرت فقط بعدما قال نائب الرئيس للمتهم ان الرئيس سمح تحديدا له بتسريب بعض المعلومات التي يتضمنها تقييم الاستخبارات القومية وهو تقرير تقدمه أجهزة الاستخبارات إلي الرئيس. والمثير في المشهد ان البيت الأبيض لجأ إلي الصمت ولم يرد علي أحدث الاتهامات الموجهة إلي رئيسه وقد بدأ في التفكير في الحيل والألاعيب القانونية لا سيما التي تدور في فلك أحقية وقانونية قيام الرئيس بالكشف عن الوثائق. غير ان مسئولي المعارضة الديمقراطية قد اخذوا في إعداد أوراقهم لمهاجمة الرئيس وأضحي استجواب الكونجرس لبوش اقرب ما يكون والأجواء في واشنطن اليوم لا تختلف كثيرا عن نظيرتها أيام ووترجيت بعدما رسخ عند الجميع ان الرئيس بوش سمح بتسريب معلومات سرية من اجل مكسب سياسي وهو ما يعني ان الرئيس يضع حزبه فوق امن الأمريكيين والخلاصة ان لويس ليبي يدفع ببراءته وليذهب البيت الأبيض إلي أي تهلكة وقد قلنا من قبل ان ليبي ورئيسه المباشر ديك تشيني من الحنكة والمهارة السياسية والخبرة بدرجة لا تسمح لهما بالاقدام علي كشف اسم العميلة بلايم إلا بتصريح مباشر من بوش وها قد جاء الوقت الذي ينقسم فيه البيت الأبيض علي نفسه كل يسعي لحماية اسمه ورسمه ويبقي التساؤل هل من مفر من هذا الانهيار وتلك الحرب الدائرة داخل إدارة بوش المهترئة؟ الحرب هي الحل هكذا يذهب عدد وافر من المحللين للشأن السياسي الأمريكي ويتمحور في نظرية الهروب إلي الأمام ورغم انه ليس حلا أصيلا إلا انه في كل الأحوال يعد حلا مؤقتا لتأجيل الصراع القائم ولإشغال الرأي العام الأمريكي فجماعة المحافظين الجدد أو ما تبقي منهم وعلي رأسهم رامسفيلد وفروعهم الممتدة في كافة مراكز اتخاذ القرار الأمريكي تدرك جيدا ان الفرصة الوحيدة المتاحة أمامهم اليوم للمضي قدما في تنفيذ بقية أجندتهم هي الفترة المتبقية لبوش وتعلم علم اليقين ان الخارجية بقيادة رايس قد أضحت معقلا لسياسات الواقع والدبلوماسية الناعمة وان الرأي العام الأمريكي نفسه قد سام من تبريراتهم الواهية لما اقترفوه من جرائم طوال فترة حكمهم وعليه فان ضربة عسكرية تقدمها الأحداث الجارية علي طبق من فضة لرامسفيلد وصحبه توجه لإيران يمكنها ان تعيد لم الشمل داخل هذه الإدارة مرة جديدة وهو ما يحملنا علي القول بان سبيلهم الوحيد هو اشعال وإشغال واشنطن بحرب جديدة مع إيران. غير ان هذا السيناريو الهروبي ان جاز التعبير يتوقف نجاحه أو فشله علي مدي دعم الكونجرس الأمريكي له وفي حال رفضه فإن الاسوأ الذي لم يأت بعد ليجد طريقه علي بساط الريح لإدارة بوش والتي لا يستبعد المراقبون في واشنطن ان توجه لها الاتهامات والتي تقودها للرحيل وتبقي الخسارة الأكبر من نصيب روح أمريكا الحرية والديمقراطية وليوضع بوش في مصاف نيكسون من جهة وجونسون من جهة أخري فالأول صاحب فضيحة ووترجيت والثاني رجل هزيمة فيتنام.