قبل أيام قليلة فقط عندما كان الرئيس جورج بوش منهمكاً في الحملة الانتخابية سعياً للحفاظ علي الأغلبية "الجمهورية" في مجلسي النواب والشيوخ في الكونجرس الأمريكي لم يتردد في إغداق المديح والثناء علي وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ذي الأربعة والسبعين عاماً. وقد أعلن الرئيس بوش وقتها أمام الجميع أن رامسفيلد سيبقي في البنتاجون حتي نهاية ولايته الرئاسية التي ستنقضي بعد عامين. واليوم بعدما تنحي وزير الدفاع واستقال من منصبه بتأثير واضح من النتائج السلبية التي أفقدت "الجمهوريين" الأغلبية في الكونجرس، أزعم أن دهشة كبيرة تتملك بريطانيا وأكثر الدول الأوروبية، ليس لاستقالة رامسفيلد من منصبه، بل علي العكس، لبقائه طيلة هذه الفترة علي رأس "البنتاجون" رغم الدعوات المطالبة برحيله، وظهور بوادر الفشل في سياساته العراقية. ويبدو أن أسلوب الرجل لم يكن أبداً هو ما تحتاجه أمريكا في هذه المرحلة، بحيث ساهم أسلوبه الشخصي في التعامل مع الآخرين، حتي داخل الإدارة الأمريكية نفسها، والذي تطبعه الفظاظة والتعالي، فضلاً عن استخدامه القاسي للغة، في جعله محط نفور من الجميع. لكن بعيداً عن أسلوبه الشخصي وطباعه الخاصة ارتبط رامسفيلد في الأذهان بإخفاقات الحرب علي العراق للدور الأساسي الذي لعبه في الغزو غير الشرعي لذلك البلد والمساندة القوية التي حظي بها من قبل نائب الرئيس ديك تشيني الباقي في موقعه، حتي الآن. هذه الحرب التي أثبتت الأيام أنها لم تكن جولة سهلة كما توقع أركان إدارة بوش، لاسيما في فترة ما بعد سقوط بغداد وبدء عملية إعادة الإعمار التي مازالت متعثرة إلي حد اليوم. وزاد الوضع سوءاً بعد تواصل سقوط الجنود الأمريكيين في العراق ليصل إلي 2800 جندي، فضلاً عن سقوط 125 من أفراد القوات البريطانية في الحرب. وفي تقرير مثير للجدل نشرته دورية "لانسيت" جاء أن عدد العراقيين الذين قتلوا منذ الغزو الأمريكي للعراق وصل إلي 650 ألف عراقي، وهو رقم ولاشك مهول بالنظر إلي عدد سكان العراق البالغ 25 مليون نسمة. وبالنسبة للأمريكيين لم يعد هناك أدني شك في أن المغامرة العراقية التي كان رامسفيلد مخططها الأول باتت الخطأ الاستراتيجي الأكبر الذي ارتكبته أمريكا منذ حرب فيتنام. ولا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة لبريطانيا التي أيد رئيس حكومتها توني بلير الحرب علي العراق، وساهم بقوات بريطانية لفرض الاستقرار في الجنوب. ورغم أن المناطق الجنوبية في العراق أكثر استقراراً من المحافظات الأخري وأقل عنفاً من الأنبار وبغداد، إلا أن العراق هو بلاشك أسوأ تجربة بريطانية منذ حرب قناة السويس، وأكبر خطأ ارتكبته في سياستها الخارجية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد كانت الأخطاء المرتكبة في العراق متعددة الأوجه والجوانب، فمن جهة فشلت الحرب علي الإرهاب في القضاء نهائياً علي احتمال تعرض الولاياتالمتحدة، أو بريطانيا، لهجمات إرهابية. ومن جهة أخري فشلت الحرب أيضاً في إحلال الديمقراطية والسلام في المنطقة المضطربة، كما أعلن بوش ذلك في البداية. ومن المتوقع أن تكون النتيجة أسوأ في حال انسحاب القوات الأمريكية والبريطانية من العراق في ظل التقديرات التي تؤكد احتمال انزلاق العراق إلي حرب أهلية شاملة قد تغري القوي المجاورة للتدخل من أجل حماية مصالحها. وقد لخصت صحيفة "ذي إكونوميست" البريطانية الوضع المتردي في العراق تحت القيادة الكارثية لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد في مقال نشرته في 22 من شهر أبريل الماضي جاء فيه: "إن أكبر خطأ ارتكبه رامسفيلد في العراق هو محاولته خوض حرب بأعداد قليلة من الجنود. أما خطؤه الثاني فتمثل في عدم توفيره ما يلزم من الموارد لمعالجة الأوضاع بعد سقوط بغداد. فقد أساء رامسفيلد قراءة المعلومات الاستخباراتية قبل الحرب التي كان معظمها علي كل حال بعيداً عن الصواب ومجافياً للحقيقة. لقد فشل في التخطيط للاحتلال، وتجاهل تصاعد حركات التمرد. كما قام بحل الجيش العراقي مرسلاً 300 ألف من أفراده الذين فقدوا وظائفهم إلي الشارع". وخلف كل هذا الإخفاق الذي أصاب المشروع الأمريكي في مقتل سواء في العراق، أم في عموم منطقة الشرق الأوسط، يقف "المحافظون الجدد" الذين كان الرئيس بوش يصغي إليهم ويساند رؤاهم، رغم أنه لم يكن واحداً منهم في البداية. ويؤمن "المحافظون الجدد" بإمكانية فرض الديمقراطية في بعض دول الشرق الأوسط عبر سياسة "الصدمة والرعب"، لكن تبين فيما بعد خطأ هذه السياسة وبعدها عن الواقع. وبسبب تأثير "المحافظين الجدد" سلم الرئيس بوش مهمة إدارة الاحتلال إلي وزارة الدفاع بدل وزارة الخارجية التي كانت تملك خططاً لمعالجة الوضع والسيطرة عليه. وفي هذا الإطار أصر دونالد رامسفيلد علي إصلاح الجيش الأمريكي من خلال الاعتماد علي قوات أقل والتركيز علي سلاح الجو والقنابل الذكية معتقداً أن ذلك كافٍ لإحراز النصر. وقد يكون مصيباً فيما ذهب إليه من أن الاستخدام المكثف للقوة النارية قد يدحر العدو ويلحق به الهزيمة، لكنها لا تستطيع الاستمرار في مرحلة ما بعد الاحتلال التي تتطلب فرض الأمن والاستقرار. ورغم مطالبة الجنرال "أنتوني زيني" في البداية باعتماد قوة عسكرية أكبر تقدر ب380 ألف جندي إلا أن خطته لم تلقَ الترحيب الكافي من قبل دونالد رامسفيلد الذي توقع أن يستقبَل الجيش الأمريكي في العراق بأذرع مفتوحة ما دام قد خلص البلاد من حكم صدام حسين. وأكثر من ذلك اتهم الجنرال "زيني" وزير الدفاع بالتقصير في أداء واجبه لفشله في الإعداد الجيد لفترة ما بعد الحرب. وهي الاتهامات التي تصاعدت في الآونة الأخيرة، لاسيما من قبل بعض كبار الضباط المتقاعدين الذين لم يعودوا يطيقون الإدارة السيئة للحرب وإصرار رامسفيلد علي المضي قدماً في الأخطاء نفسها. يشار إلي أن رامسفيلد كان قد قدم استقالته للرئيس بوش عقب انكشاف فضيحة سجن "أبو غريب" وانتشارها علي نطاق واسع، لكن الرئيس ارتكب خطأ آخر عندما رفض الاستقالة التي كانت ستخفف بعضاً من الضغوط علي إدارته. واللافت في المشهد السياسي الأمريكي الآن هو ما نراه من عودة بعض الشخصيات البارزة التي عملت مع الرئيس جورج بوش الأب إلي الواجهة مثل وزير الخارجية السابق جيمس بيكر، وروبرت غيتس الذي حل مكان رامسفيلد، وهو معروف بنظرته البراجماتية للشؤون الخارجية. ورغم هذه التغييرات التي تروم إصلاح الأمور وتصويبها في العراق، إلا أن الأضرار أكبر من أن ترمم في ظل الخيارات المحدودة أمام البيت الأبيض. فكلا الخيارين المطروحين حالياً وهما البقاء في العراق، أو الخروج منه، لا يحظيان بدعم كبير، وهو ما يجعلني أتوقع انسحاباً لقوات التحالف خلال فترة زمنية أقصاها 18 شهرا.