يبدو أن مفهوم "التدمير المتبادل" (Mutual Assured Destruction) بين روسياوالولاياتالمتحدة ما يزال قائماً اليوم، حيث يحذر العلماء من احتمال عودة الدخول في سباق تسلح جديد بين القوتين العظميين. وفي هذا الإطار، يقول "دميتري سوسلوف"، المحلل بمجلس السياسة الخارجية وسياسة الدفاع" المستقل بموسكو: "ثمة العديد من الدول التي تمتلك سلاحاً نووياً في العالم، غير أن روسياوالولاياتالمتحدة تربطهما علاقة (التدمير المتبادل المؤكد) التي تري فيها كل واحدة منهما أنه من الضروري الحفاظ علي وسائل ردع الأخري"، مضيفاً: "علينا أن نتخلص من ذلك، وأن نجد قاعدة جديدة للاستقرار، ولكنني أخشي أننا لا نسير في هذا الاتجاه في الوقت الراهن". أما مناسبة الحديث عن هذا الموضوع فهي مقالٌ نشر في العدد الحالي من دورية "فورين أفيرز" الأمريكية دق ناقوس الخطر في موسكو هذا الشهر. المقال، وهو بعنوان "تزايد التفوق النووي الأمريكي"، يري أن تدهور الترسانة النووية الروسية، إضافة إلي الاختراقات التكنولوجية الأمريكية الأخيرة، يعنيان أن روسيا لم يعد بمقدورها الاعتماد علي ردع الولاياتالمتحدة بواسطة قدراتها النووية الحالية. ويري كاتبا المقال، وهما الأستاذان الأمريكيان "كير ليبار" و"داريل بريس"، أن أنظمة الرادار والأقمار الاصطناعية المنهكة التي تتوفر عليها روسيا "ستمنح الزعماء الروس بضع دقائق فقط علي أكثر تقدير للتحذير قبل أن تدمر الأسلحة الأمريكية قوات الرد الروسية". وبالمقابل، يري الكاتبان، أن الولاياتالمتحدة تعمل دون كلل علي تحديث أسلحتها النووية والرفع من دقتها وفعاليتها. ليخلص الكاتبان إلي أنه: "ما لم يتدارك الروس الأمر بسرعة، فإن ضعف روسيا سيتفاقم مع مرور الوقت". وإذا كان الخبراء الروس يقرون بأن المقال لا يجانب الصواب كثيراً، فإن ردود الفعل التي أثارها في الدوائر الأمنية الروسية كانت "متوترة جداً"، علي حد تعبير "سوسلوف" الذي يري أن "العديد من الناس يعتقدون أنه ليس من المصادفة أن يتم (طلب كتابة المقال) من قبل أحدهم"، مضيفاً "لقد أرجأ المقال علي الأقل فرص الحديث عن إزالة إطار (التدمير المتبادل المؤكد) من علاقاتنا مع الولاياتالمتحدة". إلي ذلك، أصدر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بلاغاً عقب نشر المقال الشهر الماضي، شدد فيه علي أن روسيا ستزيد حجم الإنفاق المتعلق بالتسلح وستعمل جاهدة علي الحفاظ علي قوتها الاستراتيجية، مضيفاً "ما يزال الحفاظ علي المستوي الأدني من التسلح النووي الذي يتطلبه الردع النووي أولوية قصوي". غير أن "فيتالي شلايكوف"، المحلل الاستراتيجي بوكالة الاستخبارات العسكرية السوفيتية السابقة، يري أن المقال الذي نشرته دورية "فورين أفيرز" يمثل "ضربة قوية لبوتين، ذلك أنه جعله يبدو ضعيفاً أمام الانتقادات القائلة إنه لا يولي دفاع روسيا الاهتمام الكافي. أما الآن، فمن المتوقع أن يعمل علي تسخير ما يلزم من الوسائل في سبيل تحديث ترسانة الردع الروسية". من جهة أخري، قال "أليكسي أرباتوف"، الخبير في مراقبة الأسلحة بمركز "كارنيجي" بموسكو، في مؤتمر صحفي عُقد الأسبوع المنصرم، إن روسيا تتوفر اليوم علي قاذفات استراتيجية أقل ب39 في المائة، وصواريخ باليستية عابرة للقارات أقل ب58 في المائة، وصواريخ غواصات نووية أقل ب80 في المائة مما كان يتوفر عليه الاتحاد السوفيتي في 1991. وأضاف "أرباتوف" أنه ينبغي علي روسيا أن ترفع من حجم إنتاجها لصواريخ "توبول- إم" الجديدة من المعدل الحالي، المتمثل في ثمانية صواريخ في السنة، إلي نحو 30 صاروخاً في السنة. وقال "لا أدعو إلي سباق تسلح، وإنما إلي تحديث القوي النووية الاستراتيجية الروسية". ومن جانبه، قال "يوري سولومونوف"، مصمم الصواريخ الروسي، الأسبوع المنصرم إن موسكو "ستبلغ واشنطن في غضون شهرين" بالتغييرات الكبري في قوي روسيا الاستراتيجية، التي قد تشمل رفع إنتاج الصواريخ وإنتاج أنواع جديدة من الأسلحة. ويقول الخبراء الروس إن قرار الرئيس بوش في 2001 الانسحاب من اتفاقية حظر الصواريخ الباليستية جعل موسكو تعقد العزم علي نشر جيل جديد من الصواريخ النووية التي يمكنها اختراق أي درع دفاعي أمريكي محتمل. ويري الخبراء الروس أن هذه الأسلحة تتماشي مع الفوج الأول من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات من طراز "توبول إم" التي تحمل رؤوساً حربية قادرة علي تفادي أجهزة الدفاع الأرضية، ومن المرتقب أن تصبح جاهزة هذا العام. كما ينتظر أن تشرع روسيا بحلول 2008 في تجهيز أسطول جديد من الغواصات النووية بصواريخ "بولافا" الجديدة. ويقول "دانيل كوبياكوف"، المحلل بمركز "بي آي آر" المستقل بموسكو والمتخصص في القضايا النووية: "لم تعد روسيا قادرة علي التنافس بنفس المستوي مع الولاياتالمتحدة، ولكنك لا تحتاج إلي نسخ التكنولوجيا نفسها أو التوفر علي العدد نفسه من الصواريخ للرد"، مضيفاً: "إن روسيا تستطيع الاحتفاظ بقدرتها الأساسية علي تدمير الولاياتالمتحدة للرد علي هجوم، وذلك هو منطق التدمير المتبادل المؤكد". إلي ذلك، حذر رئيس الوزراء الأسبق "ييجور غيدر"، الذي يرأس حالياً معهداً ليبرالياً مشهوراً في موسكو، من أن تصور الضعف الروسي (والصيني) الذي عكسه مقال "فورين أفيرز" قد يدفع إلي إعادة إحياء تكتلات عسكرية علي شاكلة ما كان سائداً خلال الحرب الباردة، حيث قال في رسالة بعث بها إلي صحيفة "فاينانشيال تايمز" الشهر الجاري: "لو أن أحداً يرغب في دفع روسيا والصين إلي الدخول في تعاون وثيق بخصوص الصواريخ والتكنولوجيا النووية، فسيكون من الصعب إيجاد طريقة أفضل وأكثر أناقة لفعل ذلك من الظروف الحالية".