قبل شهور قليلة كانت لدي الدكتور نعمان جمعة فرصة تاريخية لدخول التاريخ من أحد أبوابه الواسعة، ولكي تحتل صورته مكانا مقدرا إلي جانب زعماء حزب الوفد التاريخيين ابتداء بسعد زغلول وانتهاء بفؤاد سراج الدين مرورا بمصطفي النحاس. فبالإضافة إلي رئاسته لحزب الوفد طيلة السنوات الست الأخيرة، تنافس نعمان جمعة في أول انتخابات رئاسية تجري في تاريخ مصر. الانتخابات الرئاسية الأولي في حد ذاتها حدث أدخل كل من شارك فيه تاريخ التطور الديمقراطي في مصر. بالإضافة إلي ذلك فإن مشاركة رئيس حزب الوفد في أول انتخابات رئاسية، وهو الحزب الذي عرف أزهي عصوره في مرحلة الحكم الملكي، كان له أن يكسب الدكتور نعمان جمعة مكانة إضافية في التاريخ المصري. فبغض النظر عن النتيجة المتواضعة التي حققها الدكتور جمعة في تلك الانتخابات، فقد كان للتاريخ أن يذكر أول وفدي يتنافس علي رئاسة مصر الجمهورية. فرصة نعمان جمعة لتأكيد مكانته في التاريخ المصري كان لها أن تتعزز إذا اختار التنحي عن قيادة الوفد بعد النتيجة المتواضعة التي حققها في تلك الانتخابات. فهذا تصرف كان سيجعل نعمان جمعة أول زعيم وفدي يتخلي عن قيادة الحزب العريق. كما كان ليجعل منه مثلا ومرسيا لتقاليد جديدة في السياسة المصرية، وهي التقاليد التي بمقتضاها تتنحي القيادة طواعية عندما يصادفها سوء الحظ أو سوء التقدير لا فارق، وهي تقاليد في الممارسة السياسية تفتقر لها مصر بشدة. كان لنعمان جمعة أن يتنحي خاصة بعد أن بات واضحا أنه لم يعد يحظي بتأييد أعضاء الوفد معطيا الفرصة لقيادة جديدة تستعيد للوفد مصداقيته وشعبيته. إلا أن الدكتور نعمان ركب رأسه كأي جالس علي مقعد السلطة، حتي لو كانت سلطة معنوية في رئاسة حزب يعاني الكثير من المشكلات، فتشبث بالمنصب، وصورت له نفسه أن المعارضة التي يواجهها إنما هي مؤامرة من خليط من الطامعين في المنصب والمباحث والأمريكان والإسرائيليين، فخاض معركة ضد معارضيه داخل الحزب، واستمر في قيادة الحزب أثناء معركة انتخابات برلمانية حاسمة، فانشغل فيها عن العمل علي إنجاح مرشحي الحزب بالعمل علي إسقاط خصومه منهم، واستمرت سلسلة التصرفات المؤسفة، حتي وصلت إلي ذروتها في موقعة الدقي الشهيرة التي انتهت بإحراق جانب من مقر الحزب وإطلاق الرصاص علي أعضاء الحزب وصحفييه، الأمر الذي انتهي بأستاذ القانون الشهير خلف القضبان. يا لها من نهاية درامية بائسة تلك التي اختارها الدكتور نعمان جمعة لنفسه. فبعد أن لاحت أمامه الفرصة لاقتحام التاريخ اختار اقتحام مقر حزب الوفد فكان مصيره دركا لم يهبط له أي من زعماء الوفد من قبله. وبدلا من أن يتعرض الدكتور نعمان للسجن والاضطهاد بسبب مقاومته للاحتلال والاستبداد مثل كل زعماء الوفد السابقين، شق الدكتور نعمان طريقه للسجن متهما بالبلطجة ومحاولة قتل أعضاء حزبه. بسقوط نعمان جمعة توشك مرحلة كاملة من الحياة الحزبية المصرية علي الانتهاء. فبالإضافة إلي سقطة الدكتور نعمان جمعة، يواجه الدكتور رفعت السعيد معارضة متزايدة داخل حزب التجمع، وراحت القيادات التقليدية للحزب الوطني في الاختفاء مفسحة المجال لقيادات شابة. فمرحلة التعددية المقيدة التي بدأت منذ عام 1976 وصلت لنهايتها الموضوعية بالنتائج الهزيلة التي حققتها أحزاب المعارضة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وبالمتاعب التي يواجهها الحزب الوطني رغم احتفاظه بالأغلبية البرلمانية. وبقدر ما بات واضحا أن مرحلة التعددية المقيدة تقترب من نهايتها، بقدر ما يكتنف الغموض طبيعة المرحلة التالية لها. المتفائلون منا يرون في سقوط الدكتور نعمان مناسبة لبدء صفحة جديدة تتولي فيها قيادات شابة مواقع المسئولية في حزب الوفد فتعيد للحزب العجوز شبابه، وهو نفس ما يتمناه المتفائلون أنفسهم لليسار وحزب التجمع. أما الأقل تفاؤلا فلا يرون لهذه الأحزاب فرصة للنهوض من جديد، فالمسألة لدي هؤلاء أعمق من مجرد أزمة قيادة، فهي أزمة أبنية وأفكار ورموز لم تعد قادرة علي إلهاب خيال المواطنين والفوز بثقتهم. وهناك بالإضافة إلي هؤلاء وأولئك من هم أكثر تشاؤما فيرون في كل ما لحق بالأحزاب السياسية المصرية ضربة قاصمة نهائية للحياة السياسية المدنية الحديثة كلها، وإفساحا للطريق أمام التيارات الإسلامية الصاعدة لتستكمل هيمنتها علي الحياة السياسية المصرية بعد أن وصلت إلي مدي بعيد علي هذا الطريق. المؤكد أن التيارات الإسلامية تمثل شيئا أصيلا في هذه الأمة وأن تمثيلها ودمجها في النظام السياسي سيكون أحد المعايير المهمة لنضوج نظامنا السياسي. والمؤكد أيضا أن التيارات الإسلامية تعجز عن تمثيل كل التطلعات الموجودة بين المصريين. غير أن الواضح أن الهياكل الحزبية القائمة قد أصابها الإنهاك والإرهاق بسبب سنوات طويلة من الركود السياسي، وأن حركة تجديد حزبي عميقة باتت أمرا لا غني عنه. ويتراوح عمق التجديد المطلوب بين ظهور قيادات وأفكار جديدة للأحزاب القديمة من ناحية، وظهور أحزاب جديدة تماما من ناحية أخري، والأرجح أن مزيجا بين الأمرين هو الأكثر احتمالا. فلن يكون من السهل تعويض حزب له عراقة الوفد بكل ما يمثله من تراث الكفاح الوطني والديمقراطي في مصر، وسوف يكون هناك دائما من المصريين من تلهمهم تلك الصياغة العبقرية للوطنية المنفتحة علي العالم، والليبرالية المتمسكة بالتقاليد والقيم الشعبية المصرية. في نفس الوقت فإن هناك من المصريين من أصابه اليأس من الصيغ القديمة كلها، ويتجه للبحث عن جديد يخرج نظامنا السياسي من ثنائية الوطني والإخوان. وهناك يساريون سأموا دفاع حزب التجمع عن هيمنة البيروقراطية باسم الدفاع عن الاشتراكية والقطاع العام، ومن كل هؤلاء ستتشكل الصياغة الجديدة للنظام السياسي المصري الذي بات في حاجة لتجديد عميق.