الفوضي الهدامة في السياسة الأمريكية اصبحت أحد المبادئ الاستراتيجية في التعامل مع المشاكل والصراعات الدولية ولكن هذا الشعار أصبح سمة تميز اداء حكومتنا، حتي توالت الكوارث والمصائب وسط انكار للحكومة ومحاولة مستمرة للتقليل من اوجه القصور والافكار للهرب من مواجهة الغضب الشعبي من ناحية وغضب الرؤساء الكبار من ناحية أخري خوفا من الاقالة فتأتي تصريحاتهم بعيدة عن الحقيقة والتصديق فالحكومة والمسئولون فيها يلجأون احيانا الي الادعاء بعكس الحقيقة: وهناك العشرات والعشرات من الأمثلة المؤيدة لذلك، ولعل حالة الاستحواذ القهري علي اموال المواطنين تحت عباءة التبرعات الاجبارية لهي خير دليل علي صحة ذلك، ومن الانصاف القول هنا بأن لجوء الحكومة الي ذلك المسلك لا يطال المواطنين العاديين وحدهم، بل ينصرف ايضا الي فئة الاغنياء من رجال الاعمال ولعلنا لم ننس بعد اللغط الذي دار مؤخرا حول التبرعات الخاصة بضحايا العبارة المنكوبة. ومن الغريب ان تمارس الحكومة ممثلة في هيئاتها وشركاتها المختلفة ذلك الاسلوب الفج بكل اصرار، وتحضرني هنا الآن واقعتان محددتان أود ان اضعهما تحت نظر وسمع وبصر كل من يهمه ذلك الامر، وذلك في مجال الدفع او التبرعات بالاكراه الذي تمارسه الحكومة معنا ليل نهار، مثل: 1- عندما تلجأ الحكومة لزيادة مواردها السيادية بأي طريقة، حتي لو كان ذلك علي حساب الواقع أو المصداقية، حيث لاحظت مثلا ولمرات عديدة بنود ومكونات فاتورة تحصيل قيمة استهلاكنا المنزلي من الغاز، وفيها وجدت ان تلك الفاتورة الشهرية تتضمن دائما قيما نقدية تتقاضاها الشركة التابعة للهيئة المصرية العامة للبترول بدون وجه حق!! اذ تتضمن الفاتورة الي جانب قيمة الغاز المستهلك، قيما اخري تحت مسميات عديدة مثل مصاريف تحصيل، ومصرفات تسميها كذبا بمصروفات المتابعة الدورية للاجهزة فضلا عما تسميه بالدمغات، وقد دفعني الفضول لحساب وتقدير قيمة تلك الزيادات، فوجدت انها تمثل حوالي 44% من اجمالي قيمة الفاتورة، ومن ثم يتضح ان قيمة استهلاكنا الفعلي المنزلي من الغاز لا يمثل الا حوالي 56% فقط من اجمالي قيمة الفاتورة التي ادفعها ومعي آخرون صاغرين طائعين لشركة الخدمات التجارية البترولية! واعتقد ان ذلك المسلك العجيب يمتد بالتأكيد الي فواتير خدمات حكومية اخري عديدة مثل مياه الشرب والاتصالات، والتي بشرنا مسئولوها مؤخرا بزيادة قادمة في أسعارها بما لا يقل عن 25% عن مستوياتها السابقة. 2- اما الحالة الثانية وهي الاكثر غرابة، فهي تتعلق بقضية التبرع الاجباري الذي يفرض علي المواطنين أو الموظفين منهم عنوة ودون أخذ رأيهم فيه. أليس من الغريب ان تفاجأ عند صرف مرتبك بانخفاضه عما هو معتاد، وعندما تسأل عن سبب ذلك يجيبك صراف الخزينة بأن النقص في المرتب راجع لتبرعاتك لضحايا كارثة زلزال 1992 أو تبرعك لسداد ديون مصر مثلما حدث في عام 1985 أو لضحايا قطار الصعيد المحترقين او ضحايا العبارة الغارقة "سالم اكسبريس" او العبارة المنكوبة السلام 98. ولا اعرف علي وجه الدقة السبب الحقيقي الذي يدفع بالحكومة للسبق بتقرير تلك التبرعات وفرضها علي المواطنين أو الموظفين بالاكراه. ولعل الذي قرأناه مؤخرا بخصوص الفرمان الذي اصدرته محافظة البحر الاحمر لجمع تبرعات اجبارية من العاملين فيها لصالح ضحايا العبارة المنكوبة، وذلك علي لسان سكرتير عام المحافظة في النشرة التي تم تعميمها هناك ما يثير في النفس الضحك والبكاء معا، فالنشرة المذكورة تضمنت بيانا للمبالغ التي تم خصمها من رواتب شهر مارس 2006 كالتالي: 250 جنيها من قيادات الادارة المحلية، و150 جنيها من مديري الادارات بالديوان العام والادارات الاخري، و20 جنيها من موظفي الدرجة الاولي وما فوقها، و10 جنيهات من بقية الموظفين، وخمسة جنيهات من عمال الخدمات المعاونة والحرفيين والمؤقتين، المهم الخبر المنشور بذلك الخصوص، قد اكد النص في بداية النشرة علي ما يلي: تلبية للدعوة الكريمة وتصديق السيد المحافظ لصالح اسر ضحايا العبارة ومشاركة ورغبة العاملين بدائرة المحافظة في التبرع "وهذا غير صحيح في الواقع لان موظفي المحافظة تم الخصم من رواتبهم من المنبع، أي انه كان تبرعا اجباريا ليس للموظفين فيه أي حول أو قوة". أمثلة اخري للتبرع الاجباري، علمناها عندما تفرض مثلا بعض كليات الجامعة دفع تبرع اجباري لاتمام اجراءات قبول أو نقل قيد طالب ما بين كلية واخري، وكذلك الحال فيما عرفناه وسمعناه من الاعلامية الشهيرة السيدة مني الشاذلي في برنامجها الشائق علي قناة دريم، وذلك منذ فترة عندما اشارت لواقع ولضرورة دفع تبرع اجباري لهيئة تنشيط السياحة للموافقة علي استخراج بعض التراخيص التي تصدرها المهم في ذلك كله، ان الادارة أو الهيئة المسئولة عن فرض هذا التبرع الاجباري، تطلب من الراغب في الحصول علي الخدمة، كتابة اقرار يرجو فيه قبول تبرعه!! ومن الأمثلة الشهيرة الاخري في هذا السياق، ما تلجأ اليه هيئة السكك الحديدية، حيث يضيف موظف أو موظفة حجز تذاكر السفر بالقطارات المكيفة جنيهين علي كل تذكرة، ومعني ذلك باختصار ان قيمة طوابع التبرع والتي توزعها أو تبيعها الهيئة لصالح الهلال الاحمر المصري او معونة الشتاء، انما تحصل من المسافرين بالاكراه مع سبق الاصرار والترصد، حيث لا خيار للمسافر في رفض او قبول ذلك التبرع الاجباري. لكل ذلك فاننا نعتقد بأن اعادة الثقة في علاقة الحكومة مع المواطنين، والتخلص او تحجيم حالة الفوضي الضاربة بجذورها في مجتمعنا لا يكون بالقول والامنيات الحسنة فقط، والتي تغيب في الحقيقة علي أرض الواقع، واذا كنا جادين في السعي لاستعادة تلك الثقة، فما علي الحكومة إلا ان تبدأ بنفسها، فتبتعد عن مثل تلك الصغائر، والتي لا تعكس عزم الحكومة الجاد لتأصيل قيم الصدق والشفافية، وان تكون هي المثل والقدوة فهل يعقل ان تتعامل الحكومة مع مواطنيها بعقلية ومنطق وانتهازية التاجر الجشع، ان المطلوب من الحكومة ان تبتعد عن النظرة الدونية التي تنظر بها لمواطنيها وان تتخلص من عيوب ومسالب اسلوب الاستقواء الذي تمارسه في تعاملاتها اليومية مع المواطنين. كما ارجو من حكومتنا الرشيدة ان تستوعب حقيقة ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم.