يقف الوزير علي رأس السلطة التنفيذية .. تكفي كلمتا السلطة التنفيذية لكي نشعر بمدي خطورة منصب الوزير، هذا المنصب الذي يتيح لشاغله مزايا لاتعد كما يلقي عليه اعباء لا تحصي. اذن وقت الوزير "مشغول" علي مدار الساعة فكيف يصبح حاله بعد خروجه من الوزارة. يقول د. إبراهيم بدران وزير الصحة الاسبق "1976 1978" والذي اكد علي ان عمله الوحيد ليس داخل الوزارة بل داخل قاعات التدريس ويكفي انه ساهم في تعليم اكثر من 20 جيلا من الاطباء واستطاع ان يترك بصمة علي العديد ممن عملوا معه وتتلمذ علي يديه كبار اطباء مصر. ويضيف بدران لقد كنت وزيرا للصحة لدولة تعدادها 42 مليون نسمة في منتصف السبعينيات وايامها لم تكن الامكانيات المادية ولا حتي المعنوية موجودة وقد رجوت رئيس الوزراء ونائب رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك لاعفائي من هذه المسئولية لشعوري بثقل المسئولية وعدم قدرتي علي الاستمرار لأكون من الوزراء القلائل الذين طلبوا التخلي عن كرسي الوزارة. وأشار د. بدران الي ان خروجه من الوزارة لم يكن نهاية المطاف فقد ترأس اكاديمية البحث العلمي ونشر له 100 بحث علمي في العديد من الكتب السياسية والصحية والبحث العلمي. اما د. محمود محفوظ وزير الصحة الاسبق فيؤكد علي ان كرسي الوزارة لم يكن هدفًاله قائلاً: إنني رفضته في عهد جمال عبد الناصر عندما تم ترشيحي لها وفي عهد السادات وفي مرحلة حرجة وحساسة من تاريخ مصر في بداية عام 1973 ومصر تستعد لحرب اكتوبر المجيدة تم ترشيحي مرة اخري وكنت مترددا كثيرا في قبولها، وقد سألتني ابنتي لماذا التردد هل يمكنك ان تقدم شيئا؟ قلت يمكنني ان اعمل الكثير فقالت فلماذا التردد. ولانني كنت اعلم ان الوقت صعب وحساس وعلينا دخول الحرب بالفلسفة التي تجعلنا نحقق نصرا قبلت هذه المغامرة واعددت مع عزيز صدقي خطة طوارئ لتهيئة الشعب وصحته لدخول معركة حاسمة في تاريخنا. وبعد خروجي من الوزارة لم ابتعد عن الحكومة فقد شغلت العديد من المناصب المهمة ففي الفترة من 1980 1994اعتليت منصب رئيس لجنة التعليم والبحث العلمي بمجلس الشوري وفي الفترة من 1995 2001 اصبحت عضوا للجنة الاستشارية للبحوث الطبية بمنظمة الصحة العالمية مندوبا عن مصر، بالاضافة الي ان بعدي عن الكادر الوظيفي كوزير هيأ لي الاشراف علي 32 رسالة دكتوراة تدرس علي مستوي العالم. د. نوال التطاوي وزيرة الاقتصاد السابق تؤكد علي انها عاشت اكثر سنوات حياتها نشاطا عندما كانت وزيرة للاقتصاد فقد شهد عهدها أول طفرة في تاريخ سوق البورصة المصرية وزيادة في الاستثمار الاجنبي داخل مصر ولكن للاسف لم تستمر بعد خروجها فقد انزلق مؤشر البورصة والاستثمار بعد خروجها من الوزارة وان كانت الوزارات الاقتصادية الآن في رأيها قد اتخذت بعض القرارات التي كانت تنادي بها منذ 10 سنوات خاصة قوانين الضرائب الجديدة ورفع الدخول وتنشيط سوق المال وتشجيع التصدير. واشارت د. التطاوي الي انه بعد خروجها من الوزارة لم تمت سياسيا بل انها استكملت دورها في مجلس الشعب وتتولي رئاسة شركة استثمارية حتي الآن وتساهم فيها بعض البنوك مؤكدة علي انها عاشت اجمل تجربة وزارية في حياتها باعتبارها اول سيدة مصرية وعربية تتولي وزارة اقتصادية فكان افضل تكريم للمرأة المصرية وبعد تركها لها لم تتأثر بل انها ولأول مرة تتفرغ لحياتها خاصة وان العمل الوزاري بشكل عام شاق ومتواصل. د. اسماعيل صبري عبد الله وزير التخطيط الاسبق هاجم بشدة سياسة وزراء الاقتصاد الآن واتهمهم بعدم وجود سياسة اقتصادية متكاملة بعكس ما كان يحدث منذ ربع قرن، وان ما يحدث الآن هو تطبيق افكار من هنا وهناك واستجابات لبعض رجال الاعمال، وبالتالي فإنه لا توجد سياسة تدرس ما يحدث من نتائج لاتخاذ القرار في كل قطاعات الاقتصاد القومي، مشيرا الي تخلف الصناعة المصرية التي اكلها الصدأ حتي اننا نعيش الآن في فترة تفكيك الصناعة. وقال انني خرجت من الوزارة في وقت كان من المفترض ان توضع سياسة محددة ولكن الشيء الجميل في حياتي انني لم استمر في الوزارة حتي لا يرتبط اسمي بسياسات فاشلة. أما د. يحيي الجمل وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء ووزير التنمية الادارية عام 1975 فقد اكد علي انه يخدم مهنته كأستاذ للقانون الدستوري علي مدي 40 سنة سواء كان وزيرا او غير ذلك، مشيرا الي ان حياته لم تنته بل بدأت بعد خروجه من الوزارة فقد شغل العديد من المناصب المهمة ومن اهمها عضوية محكمة التحكيم الدولية بباريس وعضوية المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي ومستشار قانوني للعديد من الشركات بالاضافة الي عضويته لامناء جامعة 6 اكتوبر واستاذ بقسم القانون العام كلية حقوق القاهرة ومنذ عام 2003 وهو يشغل منصب مستشار قانوني لجمعية رجال الاعمال المصريين حتي الآن. د. إيمان بسطويسي استاذ علم النفس الاجتماعي بالجامعة الامريكية تؤكد علي ان المشاعر السلبية التي يعانيها الوزراء بعد خروجهم من السلطة ليست حكرا عليهم بل تكاد تحدث لكل موظفي مصر الكبار او صانعي القرار ومن يعمل تحت ايديهم موظفون صغار ويمتلك ادوات الامر وعندما يخرج علي المعاش يحس بانسحاب هذه السلطة يشعر بالهزيمة والتخاذل لان هذه المناصب بالنسبة له لها قيمتها اللامعة. واكدت ان الوزراء اصحاب "الكارير" او المستوي المعين كأن يكون دكتوراً او يمتلك مصنعاً او شركة وله بيزنس خاص به يعتبر المنصب تجربة استفاد منها وبعد خروجه يندمج في عمله الخاص، اما في حالة ان المنصب قد نقل الشخص من وضع الي آخر وليس له وضعه الآخر ويبدأ يعيش هذا الوضع بنوع من عدم الوعي وعندما يخرج من هذا المنصب يكتئب وينعزل عن الناس لانه بانحسار أحس الاضواء عنه. وقالت ان الميزة الوحيدة للخارجين من السلطة هي عودتهم لاسرهم التي انشغلوا عنها بسبب مشاكل ومشاغل العمل ويبدأون في اعادة ترتيب اوضاعهم ولكن للاسف الشديد معظم المسئولين الكبار وعلي الاخص الوزراء ان لم يكن كلهم تقدمهم الحكومات المتعاقبة علي مصر لمناصب شرفية حتي لا تقتلهم مرة واحدة ولكنهم يشعرون بانسحاب الاضواءعنهم فإما يتوهمون بمدي اهميتهم او تزداد اصابتهم باكتئاب. اما د. علي فهمي استاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية فيؤكد علي ان مفهوم الثقافة الشرقية والعربية تهتم بالمناصب لانها مصدر للمصالح وقد قالها محفوظ في اجرأ رواياته في الستينيات عندما "قال يا أمة عريقة في النفاق" وصاحب المنصب يحب من ينافقه ولكن بعد خروجه من هذا المنصب لن يجد من ينافقه. واشار د. فهمي بنوع من السخرية الي ان الوزير الخارج من السلطة او المسئول الخارج من المسئولية يكتئب وفي مصر عندما يخرج الموظف المصري علي المعاش "يموت" ويجلس علي المقاهي وينسي كل الدنيا لانه خرج من الوظيفة وذلك لاحساسه بأنه لا يساوي شيئا بدون الوظيفة او المنصب والناس تعامله علي هذا المنطق. وقال ان اصحاب المناصب والوزراء ورؤساء الشركات داخل مصر لديهم عذرهم فهم اعتلوا المناصب دون مشاركة الجماهير بعكس ما يحدث في اوروبا وامريكا فأصحاب المناصب يأتون من الجماهير ويعودون للجماهير مرة اخري فقد اختاروه لتولي هذا المنصب لذلك يستمر بريقه ولمعانه الاعلامي وحبه الجماهيري ولذلك ايضا لا يكتئبون وتستمر حياتهم.