العالم كله يقدم الشخصية، سياسية كانت أو فنية، بموضوعية وحيادية لا يقبلان التشكيك أو المبالغة إلا في السينما المصرية، والعربية فاختيار شخصية ما لتجسيدها علي الشاشة يعني تجريدها من مقومات البشر وإضفاء هالة مقدسة عليها تقترب بها من صورة الملائكة. هكذا جاءت صورة عبد الناصر والسادات ويخشي البعض أن تأتي علي هذا النحو صورة محمد علي في الفيلم الجديد الذي يستعد النجم يحيي الفخراني لبطولته من اخراج السوري حاتم علي وانتاج "جود نيوز" من تأليف د. لميس جابر فكيف ننأي بانفسنا كمبدعين عرب عن النظر إلي الأمور بصورة أحادية: أبيض دائمًا وأسود إذا اردنا التحريض علي كراهية شخصية ما أحيانًا، فالشخصيات التاريخية أو السياسية ليست منزهة عن الخطأ وعبد الناصر ليس "56" فحسب وانما "67" أيضا والسادات ليس "المبادرة" أبدًا بل اعتقالات سبتمبر التي لن تنسي.. ولن يغفرها أحد. د. معتز عبد العزيز رئيس قسم الفنون المرئية بالجامعة الأمريكية يبرر ما يجري علي الشاشة بقوله: المشكلة تبدأ من المدرسة التي يتم فيها تدريس التاريخ بجانبه الايجابي فقط، فالشخصية التاريخية أحادية الجانب ولا يعرف التلاميذ والطلاب عنها أي مثالث أو عيوب الأمر الذي يؤثر، سلبًا علي ثقافة الأجيال التي لا تري الشخصية إلا في جانبها المقدس والملائكي والأسطوري، فهي من حيث التناول الدرامي أبيض أو اسود، مفترية أو مفتري عليها، والتقديم غالبًا ما يتم بشكل مبالغ به في الحالين، فالخديو والملك فاروق قدما بشكل سييء للغاية في بدايات ثورة 23 يوليو بحجة انهما رموز العهد البائد، ولم يجرؤ أحد من السينمائيين وقتها علي الاقتراب من ايجابيات أسرة محمد علي، فالأمير طوسون مثلا واحد من الشخصيات التي اضطهدت في عهد الملك فاروق وعلي الرغم من هذا لم يقدمه أحد في أي فيلم أو مسلسل، وفي ظل مناخ كهذا اكتفي السينمائيون المصريون بتقديم الشخصيات كما استقوها من المعلومات التي وفرها اعلام الثورة بينما كان يفترض عليهم البحث عن الحقيقة في الكتب والوثائق لكن كيف يتأتي لهم هذا وتعليمهم اعتمد دائمًا علي الحفظ والتلقين، فعلي سبيل المثال أين الثغرة في "أيام السادات"؟ واين الكوارث التي حدثت في عهد "ناصر" بعيدًا عن الانتصار "السياسي" الذي تحقق في "56"؟ وأين المماليك الذين كانوا سببًا في انتصار "صلاح الدين الأيوبي"؟ ولماذا تغافل يوسف شاهين عن أمور وتفاصيل كثيرة في حياة تلك الشخصية بدلا من تقديمها كأسطورة في الوقت الذي قدمت الاسكندر الأكبر بوصفه "مثلي" - شاذ - حتي لو كان هذا سببًا في فشل الفيلم جماهيريًا لأنه قدم صورة مغايرة للشخصية بينما نجح "طروادة" لأنه جسد صورة "اخيليوس" كما يريد الجمهور أن يراها؟! أما المخرج محمد خان فيطرح وجهة نظر مغايرة ويقول: من قال ان انور السادات بكي وضرب رأسه في الحائط عندما علم بأمر "الثغرة"؟ ومن شاهده وهو يفعل هذا في خلوة لا أظن أن احدًا شاركه فيها؟ الأمر اذن يحتاج إلي رؤية أو نظرية اخري عند الاقتراب من الشخصية التاريخية أو السياسية تقول انه طالما لا يوجد طرف آخر شاهد علي الواقعة فان لنا مطلق الحرية في التعبير عن الواقعة كما نريد بشرط أن يتم هذا من خلال وقائع مثبتة وشهود لهم مصداقية يستطيع أن يستعين بهم السيناريست أو المخرج وإن كنت اتفق مع القول بأن البعض يقترب من سير الشخصيات السياسية والتاريخية في غياب الدقة والتوثيق فانني اتساءل أيضًا: هل المعارك التي قدمتها السينما الأمريكية حدثت بالفعل علي أرض الواقع أم ان هناك مساحة من الخيال تفرضها رؤية المخرج من خلال السيناريو الذي اختاره. علي الجانب الآخر يرفض د. حسن عماد مكاوي رئيس قسم الاذاعة والتليفزيون بكلية الاعلام ما يقدم في سياق الأفلام التاريخية والسياسية ويقول: المفترض أن تنقل الدراما الواقع الحقيقي بحيث يأتي مماثلاً أو قريب الصلة مما يجري علي أرض الواقع حيث لا توجد شخصية خيرة أو شريرة علي الدوام، ولابد من الاقتراب من الشخصية في سلبياتها وايجابياتها بدلاً من تقديمها في جانبها الأحادي الذي ينفر من العمل، والشخصية نفسها مما يؤثر سلبًا علي معدلات المشاهدة والاقتناع بهذه الأعمال الفنية، التي يسود اعتقاد لدي الكثيرين وقتها انها تجنح إلي المبالغة وتغيب عنها المصداقية. أما نشوي عقل المدرس المساعد بكلية الاعلام قسم الاذاعة والتليفزيون فترجع السبب إلي "اعلامنا غير المعتاد علي النقد باستثناء بعض الحالات النادرة، فالشخصية التاريخية والسياسية تقدم في صورة القديس أو القريبة من الأنبياء لأن البعض يتصور انه لا ينبغي المساس بالصورة الجميلة المحافظة لهم ونقلها إلي الأجيال بهذه الطريقة!! ويقدم الناقد محمود قاسم رؤيته لهذه الظاهرة بقوله: لا اعترض علي ما يحدث عبر الشاشة، فغالبًا ما تقدم هذه الشخصيات التاريخية أو السياسية بالشكل الدرامي الذي يتناسب وأذواق الجمهور المتلقي، فالسينما تلجأ إلي مبدأ "الانتقاء" بمعني انها تلتقط من صفات الشخصية الايجابيات وتتجاهل أي اخطاء، سواء لأسباب رقابية وأمنية او بحجة أن هذا يعطي المثال والقدوة، فالرغبة في تقديم رجل الشرطة في السينما تواجه بعقبات كثيرة إذا ما حملت الشخصية جوانب سلبية أو قدمتها في صورتها الانسانية، وكأنه ليس من البشر"!" علي الرغم من الجانب السلبي يؤكد علي ثرائها، ومع هذا فانني لست مع هذا النهج عن تقديم الشخصية التاريخية أو السياسية، حيث ينبغي أن نحتفي بها بوصفها قدمت خدمات جليلة للوطن ولعبت دورًا مؤثرًا يغفر للسينما تجاهل بعض الأخطاء التي ارتكبتها في الواقع وتقديمها في صورة القديس أو البطل الذي لا يخطيء، فالسينما طوال تاريخها تسير علي هذا النهج الانتقائي مثلما لا تعرف سوي الأبيض والأسود فهي انعكاس للواقع في شكله الخارجي فقط ولا تجرؤ علي الدخول في بواطن الأمور.