عنوان المقال مثل من البلاد الأنجلو سكسونية حيث يسود في المحاكم نظام المحلفين وفيها يتم استدعاء 12 من المواطنين يختارون عادة من القوائم الانتخابية علي أساس عشوائي المناظرين للمتهم من الناحية الاجتماعية والثقافية، وهؤلاء عليهم تمثل الجريمة والدلائل القائمة عليها التي يقدمها الادعاء ويفندها الدفاع وفق مشاعرهم وأهواءهم وخبراتهم، وبعد ذلك يقررون عما إذا كان المتهم مذنبا أم لا. والفكرة في الموضوع هي أن الجريمة رغم كل القرائن والوقائع هي في النهاية ظاهرة اجتماعية لا يصلح الحكم فيها وفق ظروف وأجواء واحدة. فهناك واقع محلي تحدث فيه الواقعة لا يمكن تقديرها لقاض وإنما يترك تقديرها لمناظرين للمتهم، وهو ما يحدث عادة من خلال عملية مداولة تطول وتقصر حسب ما يجري من اختلاف بين المحلفين حتي يعودوا إلي قاعة المحكمة بالحكم أو بإعلان الفشل في التوصل إلي حكم وهو ما يعد في حد ذاته حكما قد يؤدي إلي إعادة المحاكمة مرة أخري أمام مجموعة جديدة من المحلفين أو يتم تبرئة المتهم من قبل القاضي حسب ما يقرر القانون في القضية. وفي العادة فإن تعبير "ما زال المحلفون في الخارج" يعني أن القضية لم يصدر فيها الحكم بعد، وهو يمكن تطبيقه لا علي القضايا والجرائم فقط، وإنما أيضا علي القضايا السياسية والاقتصادية العامة التي تطلب من ناحية حكما وتقديرا، ومن ناحية أخري أن يكون الحكم والتقدير صادرا عن جماعة نظيرة لمن تدور بينهم القضية. ومناسبة الحديث هنا هو تقييم ما جري من تطور في النظام السياسي المصري خلال الشهور العشرة الماضية حيث تسارعت خطوات التغيير منذ المطالبة بتعديل المادة 76 من الدستور قرب نهاية شهر فبراير وحتي تشكيل الوزارة الجديدة في نهاية العام؛ وهل أدت هذه التطورات إلي تغييرات حقيقية في النظام السياسي المصري أم أن تغييرا لم يحدث وأن المسألة في النهاية ساعدت علي إبقاء الأمور علي حالها؟ هذا الأمر من أوله إلي آخره يمكن تقييمه علي أساس من معايير العالم الديمقراطي المتقدم، وفي مثل هذه الحالة فإن هيئة محلفين من فرنسا أو هولندا أو سويسرا سوف تشعر بالتأكيد بحالة هائلة من الامتعاض من نظام سياسي يشكل فيه بصفة أساسية حزبه الحاكم الهيئات المنظمة للعملية الانتخابية، ويكون فيها الأمين العام للحزب الحاكم هو الذي يصرح لأحزاب المعارضة بالميلاد، وعندما يشعر الحزب الحاكم أنه لن يحصل علي أغلبية الثلثين في المجلس التشريعي وهي النسبة التي تقضي تماما علي التعديل الدستوري الذي سعي إليه الحزب فإنه يمنع الناس المعارضين بالطبع من الوصول إلي صناديق الاقتراع وبالتالي يصبح مستحيلا تطبيق التعديل الدستوري!. وعندما تنظر هذه الهيئة من المحلفين للحقائق الأساسية في الحياة السياسية المصرية، والأسماء الممثلة لهذه الحقائق، فإن الحديث عن تغييرات ديمقراطية جذرية يصبح لا وجود له في الواقع. ولكن هيئة محلفين أخري ممثلة من دول العالم الثالث، أو من الدول العربية، أو حتي هيئة محلفين مصرية خالصة فإن الحكم سوف يكون مختلفا، فالقضية يعاد ترتيبها بشكل مختلف تماما، فالموضوع ليس تداول السلطة، أو تغيير القيادات، وإنما تحقيق قدر أكبر من المشاركة، وتطعيم النخبة الحاكمة بالعناصر " الشابة "، وتدريب الناس علي بعض من الديمقراطية وممارساتها الانتخابية، والتحضير دوما لخطوات أخري علي "مسيرة الديمقراطية". مثل هذا التقييم قد تأخذه هيئة محلفين أخري من الحزب الوطني الديمقراطي وتجعل ما جري معبرا عن "أزهي عصور الديمقراطية"؛ ولكن ما بين إعادة تعريف القضية علي هذا النحو المتفائل، وتقييمها علي أساس أنها محض انفتاح إضافي في الساحة السياسية، يكون الخلاف بين هيئة المحلفين. ومن المرجح تماما أن هذه الهيئة في الحالة المصرية لا تزال في الخارج بمعني أنها لم تصدر حكمها بعد، ليس فقط لأنها لم تتفق علي التقييم، وإنما لأنها تجد العملية لم تكتمل بعد، فالأمر لا يزيد من أوله إلي آخره عن عملية تحضير لما سوف يأتي وهو الذي لا يزال في رحم الغيب. وما تنتظره هيئة المحلفين المصرية في الخارج أن تعلم ما الذي سوف يتم في التعديلات الدستورية المقبلة وعما إذا كانت ستنقل مصر خطوات علي طريق الديمقراطية كما جاء في برنامج الرئيس مبارك الانتخابي وخطبه خلال المرحلة السابقة، أو أنه سوف يتم إجهاضها كما حدث مع المادة 76 من الدستور والقوانين المكملة لها، والتي انتهت عمليا مع الانتخابات التشريعية الأخيرة. وحتي كتابة هذه السطور فإن الجماعة التي تولت أمور المادة 76 هي التي شمرت عن أكمامها استعدادا لتعديلات دستورية عميقة، وبدعوي المضي السريع قدما علي طريق الديمقراطية فإن بهلونياتها السياسية والقانونية يمكنها بالفعل أن تسد الطريق علي التطور الديمقراطي الحقيقي في مصر. ولكن المسألة ليست بهذه البساطة التي تبدو عليها، فما جري خلال الشهور الماضية سوف يحقق نوعا من التراكم في الوعي العام، كما أن الصحافة والإعلام لم تعد "قومية" فقط وبالتالي فإن آراء متنوعة سوف تظهر ولا تجعل الآراء السلطوية وحدها علي الساحة. فلمن يظن أن الحكم قد صدر في أمر الديمقراطية المصرية فإن عليه الانتظار حيث لا يزال المحلفون في الخارج!.