فصل من رواية بعد تبرئتي من سرقة (وصف مصر) استخرجت نسخة من قرار المحكمة، وسلمتها للحسابات في العمل. أفاد الموظف المختص أنه سيبحث الأمر فور انتهائه من تحرير استمارات المرتبات . وبعد يومين، أرجأني لغد، أسلمني لغد آخر، وحين ضاق من كثرة ترددي، أشار إلى بعض السجلات على أرضية غرفته الخشبية المتهرئة ذات شقوق، لا أدري إن كانت الفئران تطل منها أم لا . قلبت في أوراقها، وقلبي يطب، وحين عثرت على السجلات المطلوبة سليمة تنهدت. ناولتها له، فاستمهلني ريثما يروق لها . شاطت أعصابي، ودخلت إلى رئيس الحسابات شاكياً ولاعناً، ولم أقبل إمهاله حتى يبحث الأمر. استدعى الموظف، فتحجج أنه مشغول بصرف مستحقات بعض المقاولين، وسيتم الأمر فور انتهائه منها، وعمل مذكرة لسحب المبلغ المودع في الأمانات، ونصحني أحدهم بتقديم شكوى للنيابة الإدارية، ترددت خشية تعقيد الموضوع أكثر. وهداني زميل لتقديم إكرامية، ولم أصدق عينىَّ وأنا أقلب الشيك بين يدي بحوالي ستة آلاف جنيه.. وفي غمرة فرحي شكرت المحقق الذي أوصى بخصم ربع راتبي تحسباً لحين البت في القضية، فلولاه ما استطعت تحويش مثل هذا المبلغ، الذي لم يسبق لي الحصول عليه مرة واحدة في حياتي. ومنيت نفسي بشراء غيارات داخلية، طالما أجلتها، فهي مداراة على أية حال. ودهان حجرة المعيشة على الأقل، بعد أن تساقط طلاؤها وشحب في أكثر من موضع، وكلما جاءني ضيف تابعت عينيه، لأرى أين تستقران. عدت من البنك في غاية الزقططة. ألقيت المبلغ على ترابيزة صغيرة أمام زوجتي، وقلت : - التايير الذي طلبته سيحضر حالاً .. ومن عندي اشترى أفخم حذاء .. تطلعت إلى بابتسامة باهتة، فتوجس عقلي. قلت : - مالك .. ؟! انحدرت الدموع من عينيها، فحثثتها على الكلام، ووجيب قلبي يزداد. قالت : - استوقفني بائع أرجل الأفراخ . قلت مهوناً : - ليس جديداً عليك . - ليس الدين له .. مئة أو مئتين .. المحروس ابنك أخذه لتاجر دواجن يقرض بالربا، وضمنه لديه في خمسة آلاف جنيه غير الفائدة.. وبعدها اختفى الولد، وجاءه التاجر مهدداً . عصاني القول، وشيء يحز في حلقي، بينما تابعت إذراف الدموع. وحين توقفت قالت : - حصلت .. بائع أرجل الأفراخ يثبتني في الشارع يريد رداً ويلم على الدنيا . رن جرس الباب . قمت لأفتح .. شاب ممن يبيعون الأدوات المنزلية. وقبل أن يفتح فمه، شكرته، وهممت بإغلاق الباب، رجاني أن أنتظر ليريني خلاطاً فرنسياً لقطة. ترددت لحظة.. فخلاطنا مفلوق كأسه البلاستيكي، وسكين مطحنته لا يعمل جيداً، ولا توجد له قطع غيار لقدم علامته التجارية. لكن هذا ليس وقته. هممت بغلق الباب ثانية، فأخرج الشاب الجهاز من علبته. ولوح أمامي بمطحنتين لمختلف الاستخدامات. وأردف أن ثمنه مئة وخمسون جنيهاً فقط . بالرغم من الغواية، فلا يوجد خلاط بهذا الرخص، قلت لأخسف به الأرض فينصرف : - مئة فقط . وكما توقعت وضع الخلاط في علبته الكرتونية، وانصرف مستنكراً . ولم أكد أجلس حتى رن جرس الباب، والشاب يقول لي : - موافق . تأملته هنيهة فاستمر : - عليه العوض .. آخر خلاط معي .. وأود أن أروح لعيالي لم يجد الزمن علىَّ بذريعة، وقلت في نفسي بناقص مئة . سحبتها من النقود التي على الترابيزة . أغلقت الباب، وفتحت زوجتي العلبة. وجدناها مليئة بقطع من الطوب. جرت إلى الشرفة ، وجريت على السلم .. ولم ألبث أن عدت لاهثاً، وكانت قد سبقتني في العودة إلى مكانها. قلت : - كملت .. انفجرنا ضاحكين، حتى دمعت أعيننا .