طرقَ الباب بالطريقة المتفق عليه «طك طك (صمت)، رنة جرس (صمت)، طك طك»، نظرت من العين السحرية، شاهدته يقف وحيدا بقامته الفارعة حاملا لفة كبيرة فى يده! غريبة، ليس هناك على ما أذكر أى موعد للخلية.. هكذا قلت لنفسى، وأنا أرتدى البنطلون، ثم فتحت الباب من دون أن أظهر أى دهشة، أو أطرح أية تساؤلات. اتجه ناحية المطبخ وهو يسألنى بتلقائية: عندك صينية كبيرة؟ قلت له دون أن أتبعه: جنب التلاجة. خرج من المطبخ بعد دقائق حاملا الصينية، ووضعها على ترابيزة السفرة الدائرية، وهو يشير إلىَّ: يلا.. أنا مش هاستناك، أنا واقع من الجوع. كانت رائحة الكباب قد أعلنت عن نوعية العشاء، فأمسكت بالفوطة ونفضت التراب عن أحد الكراسى وجلست أمام الرفيق مطصفى نتسابق فى التهام الطعام، كأننا لم نأكل منذ أيام. كنت بين الحين والآخر أنظر إليه وهو يأكل بتلذذ وبساطة، كان يتصرف مثل أى عامل بسيط من أعضاء الخلية الشيوعية التى ننتمى إليها، ومع ذلك لم تستطع هذه البساطة أن تخفى سماته الطبقية، ليس بسبب الشعر الكستنائى والعيون الملونة، ولكن حالته كلها كانت تفصح عن حفيد الباشا، الذى ارتبط بالأفكار الاشتراكية، وصار مناضلا عماليا يتناقل الرفاق قصته للإبهار والاستثمار! قال لى صديقى الراحل أحمد لبيب إن أسامة أنور عكاشة استوحى شخصية عاصم السلحدار من حياة هذا النموذج الاشتراكى الأصيل، وحكى لى كثيرا عن القصر القديم الذى يعيش فيه بمفرده، لأن معظم عائلته قد هجرت مصر، إما إلى الآخرة، وإما إلى الخارج، أما هو فقد بقى ليواصل علامة التعجب الكبيرة التى تحضر أينما يحل، وكلما رويت حكايته. وللمساعدة فى حسم تجنيد تلميذ مشاكس فى الثانوية العامة، قام أحمد بخطوتين فى منتهى الذكاء، الأولى أنه استغل حبى للقراءة، فأهدانى مكتبة هائلة من أدبيات الفكر الاشتراكى، فى القلب منها عيون الأدب الروسى، وأوصانى طبعا بضرورة قراءة رواية الأم لمكسيم جوركى، وعرفت بعد ذلك أن هذه الرواية كانت مقررا ثابتا للمبتدئين من الشباب فى معظم التنظيمات الشيوعية، أما الخطوة الثانية فكانت زيارة القصر الريفى فى إحدى مدن الدلتا! لم يكن هناك شىء يبهر فى المكان إلا الفضول الذى غرسه أحمد فى قلبى عبر الحكايات المؤسطرة، وتلك الغرابة التى سيطرت على عقلى وأنا أدخل المبنى المهجور، وأتجول بعينى بين قطع الأثاث المتهالك، واللوحات المتربة على الجدران، وبقايا الزمن الذى كان. وطبعا فهمت لماذا كان الرفيق أحمد حريصا كل هذا الحرص على أن نحضر معنا كل شىء: الطعام والشراب والسجائر، حتى الملح والمناديل الورقية! توثقت معرفتى بالرفيق مصطفى، ولم يشعرنى يوما بفارق السن أو الثقافة، وبحكم سنى فى تلك الفترة لم أستطع أن أمنع نفسى من المقارنة بينه وبين شخصية عاصم السلحدار فى مسلسل ليالى الحلمية ، وكنت أجتهد لدرجة التعسف فى محاولة الربط بين الشخصية الواقعية والشخصية التليفزيونية، لكن زيارة الكباب الليلية كانت مفتتحا جديدا لعلاقة إنسانية خالية من بهارات الأساطير، التى يتناقلها الرفاق لجذب زبائن جدد للتنظيم، ولمست بنفسى الاختلافات العميقة بين شخصية عاصم السلحدار النمطية، وشخصية الرفيق مصطفى الثرية المركبة التى تحمل مأساتها بحب، وتنتمى إلى أفكارها أكثر مما تنتمى إلى واقعها! لقد تحرر مصطفى من أوهام الطبقة، وانحاز إلى أحلام الإنسان البسيط، وعندما نضجت أفكارى مع دخول الجامعة وأعلنت خروجى من التنظيم، استقبل مصطفى قرارى بابتسامة، واستمرت صداقتنا سنوات، حتى انقطعت أخباره فجأة، فقد ظلت علاقتى به متوقفة على طرقات ليلية صارت تقليدا لطيفا بيننا طك طك، (صمت)، رنة جرس (صمت)، طك طك ، توقفت نقرات مصطفى، وبعد 3 سنوات عرفت من أحد الرفاق القدامى أنه سافر للعلاج استجابة لرغبة شقيقته المقيمة فى أوروبا، ومات هناك. لم أكترث بمعلومة الرفيق، وما زلت أنتظر أن يأتى مصطفى ذات ليلة ويطرق الباب بالطريقة المتفق عليها، طك طك، (صمت)، رنة جرس (صمت)، طك طك . (إهداء: إلى روح الممثل الغائب يسرى مصطفى).