هل أطلت جاهلية القرون الأولى برأسها من جديد؟!، سؤال يطرح نفسه بإلحاح بألف لون على تلاليف عقلي المتناثر في دروب الحيرة والقلق، وأنا أرى بعيني رأسي هذا التعصب الأعمى لأفكار وتوجهات مع رفض فكرة مناقشتها أو نقدها، وكأنها مُنزلة أو مقدسة، لا يمكن إخضاعها للتقييم والبحث الموضوعي. إنها الجاهلية القديمة الجديدة التي أطلت برأسها الكئيب على واقعنا المرير بهيئة وصورة جديدة أشد خطورة وقسوة وعنفاً، إذ أن الأفكار والمعتقدات كما كانت فيما مضى، بيد أن وسائل التعبير عنها وإقرارها في الواقع تنوعت وتلونت كي تتخذ طريقها المناسب نحو عقل ووجدان المجتمع الذي أصابه الوهن ونازلته العلل، مثلما تفعل الفيروسات التي لا نراها بالعين المجردة إذا أرادت أن تصيب البدن، فإنها تتحين الفرصة تلو الأخرى، فإذا ما ضَعُفَ جدار المناعة هاجمت البدن الهزيل لتصيبه بما تشاء من أمراض وعلل. كان الطريق الممهد أمام هذه الجاهلية لضرب بنيان المجتمع هو الجماعات أو الفصائل أو ما شابهها، إذ اتخذت منها قاعدة انطلاق فكرية وسلوكية من أجل الدعوة من جديد إلى التشرذم والتفرق والتشرنق والتقوقع و رفض الآخر، ولكن بطريقة الشياطين الذين إنْ فشلوا في إغواء الناس بالمعاصي جاءوهم من ناحية الحق، ليس حباً في الحق، ولكن رغبة في جعل الحق مطية للوصول إلى الباطل، وذلك بإتباع خطوات متتالية ومرتبة ومتسلسلة. إنها جاهلية ماكرة مخادعة، تريد الباطل بادعاء الحق، وتريد الشر بادعاء الخير، وتريد الظلم بادعاء العدل، وأخيراً فإنها تريد السلطة بادعاء التدين، وهذا هو بيت القصيد، ولقد أعدت تلك الفرق لذلك فئة من الفصحاء والبلغاء، قادرة على الإيهام والخداع بهدف تعبيد طريق إلى قلوب الناس لكسب مودتهم وتأييدهم، ومن ثم خلق قاعدة جماهيرية وشعبية لهم بين الناس من خلال القفز على الحقائق والثوابت ومقررات الواقع، واللعب بأحلام البشر وأمانيهم في الحياة. وأنا هنا لا أتجنى على أحد بل أصف الصورة كما أراها بمنتهى التجرد والحيادية، لقد صورت هذه الجماعات والفصائل لعامة الناس أنها قد جاءت بقدر الله إلى الحياة حتى تبسط طريق النجاة والخلاص تحت أقدامهم الغائصة في أوحال الضنك والفقر والجهل والمعاصي، وإنها جاءت كي تعيد البسمة والأمل، وإنها جاءت كي ترد إلى الخلق حقوقهم المسلوبة وحريتهم الضائعة، متبعة في ذلك أسلوب الماكرين المخادعين الذي يقول: إنك إن تكن وسيماً بما يكفى، فقبح الآخرين قدر ما تستطيع حتى تكون بينهم وسيماً!. لقد كان لحالة الفراغ الفكري والديني التي يمر بها المجتمع الدور الأكبر في تغلل مثل هذه الأفكار المتمردة إلى وجدان الناس، فراحت كل فرقة تسبح في هذه المنطقة المعتمة كي تنسج بدهاء الثعالب ومهارة العنكبوت ما شاءت من أفكار، وشائعات، وشعارات تجنح بالناس نحو الخيال المفرط وتغرس في نفوسهم كراهية الواقع والعزلة عن الحياة، فانبهر فريق بهذا العرض المخادع وانساق طوعاً أو كرهاً إلى منطقة التعصب الأعمى لهذه الجماعة أو تلك، حتى صارت لديه وطناً وأهلاً وعشيرة يقاتل من أجلها أبيه و أخيه بكل ما أوتى من قوة، وينتصر لها ظالمة كانت أو مظلومة، ينتصر لها من أهله ووطنه، ولو جافى ذلك واضح الحق وصريح الدين، فإن الحق والحقيقة ملك يمينهم ، وهم خلفاء الله في الأرض، وهم جُنْده المخلصون، وعباده الطائعون العاملون ، وما سواهم عصاة، طغاة، أعوان للشياطين، أو هكذا يدَّعون!. وعلى غرار هذا تناثرت فرق وطوائف وجماعات هنا وهناك بأفكار وأهداف مختلفة تحت شعارات مختلفة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وكل فرقة أو طائفة تتسابق مع الأخرى من أجل استقطاب أكبر عدد من الأشياع و الأنصار والمؤيدين، و هي تستخدم في ذلك المباح وغير المباح، والمشروع وغير المشروع من أجل الوصول إلى أهدافها، وهى في الغالب أهداف سياسية تبحث عن السلطة والمنصب والمقعد، وهنا تقع الطامة الكبرى، إذ يستغل الدين استغلالاً ميكافيللياً) بحتاً، تحت قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، والتي تتبلور على الأرض إلى (الغاية تبرر الوسيلة ) وهنا فلا مانع من الكذب ولا مانع من المزايدة والنصب السياسي باسم الدين. ولن يعجز بلغاء وفقهاء هذه الفرق عن تحوير آيات القرآن الكريم، ولىِّ أعناق النصوص لياً خبيثاً خدمة لهذه الأغراض السياسية، ونتيجة لذلك تدور الصراعات الفكرية، والصراعات الدموية التي لا مبدأ لها ولا أخلاق، والتي تؤصل لفكرة الجاهلية في أقبح صورها، وذلك من أجل إشباع شهوة في مكان تقع عليه أضواء الشهرة، أو رغبة في ذيوع صيت، وهنا ينبري أهل الكلام العاملين تحت مظلة هذه الفرق - وهم بلا جدال أهل فصاحة وبيان، كما أنهم أهل خداع ومراوغة كذلك - وذلك لتبرير الاقتتال الذي دار على الموائد المستديرة عبر القدح والسب والتراشق بالاتهامات، أو الذي دار على الأرض عبر موجات الرصاص الهادرة التي تسفك الدماء بحوراً على الأرض بلا مانع ولا رادع. أيها الناس لقد استدار الزمان وجاءت إلينا جاهلية القرون الأولى في ثوبها الجديد الذي يخفى في طياته الخنجر، والبندقية، والمدفع، يد تقدم الورود ويد تستأصل زهرة الحياة، فاحذروا. أيها الناس لقد اقتنعت بأن هؤلاء جميعاً ليسوا سوى وسيلة سائغة تتحرك بأيدي الشياطين، إذ لا يقدر على تمثيل دور التقى الورع الذي يبسط وجهه أمام الناس فتظن أنه ملاك طاهر، ثم ينقلب في لمح البصر إلى تمثيل دور مناقض إذا سارت الأمور ضد ما يشتهى ويرغب، فتراه وكأنه فاسق فاجر يعربد بلا روية ويبطش بلا وعى ويقتل بلا رحمة، فهذا خنجر مسموم يهدف إلى ذبح الحياة والأحياء ما لم يمضوا على طريقته ومنهجه. أيها الناس لقد شطبت من مفرداتى تلك الكلمات ( فصائل - جماعات - فرق - طوائف) وما كان على شاكلتها أو دار في فلكها، بعد أن أثبتت التجارب العملية أن أفراد هذه المسميات يرغبون في جر المجتمع إلى جاهلية القرون الأولى ، حيث التعصب الأعمى للقبيلة، ولأفكار القبيلة، ولأشخاص القبيلة، ولو كان ذلك على حساب الحق والعدل. قال الله جل في علاه {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} الآيات(204)، (205)،(206) من سورة البقرة.. صدق الله العظيم، ومن أصدق من الله قيلاً ، ومن أصدق من الله حديثاً.