عصبية القرون الأولى هل عادت من جديد..إذ التعصب الأعمى للقبيلة والعشيرة، والتغني بسطوتها وقوتها، والمفاخرة بشدتها وقسوتها، والمباهاة ببطشها وظلمها وغدرها ، كما كان الأعرابي القديم يتغنى شعراً بظلم قبيلته للآخرين فيقول " ونشرب إن وردنا الماء صفواًً *** ويشرب غيرنا كدراً وطيناً؟!!.
سؤال يفرض نفسه على عقلي كل يوم ألف مرة إثر ما تسمعه الأذن وتشاهده العين من مشاهد الفرقة وتعدد الرايات داخل المجتمعات العربية في ظل شعارات تؤصل للشرذمة، وتدعو للعزلة أو اجتناب الآخر، وتحكر على أصحابها دون سواهم امتلاك الحقيقة والتحدث باسمها، الأمر الذي يحسر تماماً مساحات النقاش والحوار وإبداء الآراء ومقارعة الحجة بالحجة وإيجاد عوامل مشتركة للتفاهم والعيش، في الوقت الذي يُفسح فيه المجال تماماً أمام تنامي النزعات القبلية والعصبية.
هل هي العصبية القديمة الجديدة التي أطلت برأسها الكئيب على واقعنا المرير بهيئة وصورة جديدة أشد خطورة وقسوة وعنفاً، إذ الأفكار والمعتقدات كما هي، ولكن وسائل التعبير عنها وإقرارها في الواقع قد تنوعت وتلونت بتطور الأشخاص والأحداث كي تجد لها في نفوس الناس موطناً وسكناً، فهي مثل الفيروسات تطور نفسها وتتحين الفرص للانقضاض على فكر وسلوك الخلق متى توفر لها المناخ الملائم من وسائط ناقلة لها ومن ضعف في المناعة الثقافية والبنية الفكرية؟.
ثم إن من المدهش والغريب حقاً أن يُستغل " الدين " حديثاً في الدعوة إلى أفكار القبيلة، وقد يكون الكلام غريباً لكنه يحمل حقيقة لا يمكن إنكارها في ظل تعدد الجماعات الدينية بمنطلقات فكرية مختلفة، في الوقت الذي ترى فيه كل جماعة أن الإصلاح والتغيير والعودة إلى تعاليم الدين يبدأ من عندها لأنها على الطريق الصحيح، وتسوق لذلك الحجج والبراهين كلما جاءت مناسبة لذلك، متخذة من بعض الصحف والفضائيات قاعدة لإطلاق أفكارها والترويج لمبادئها، ولا مانع أن يدور القدح علانية بين هذه الجماعة أو تلك من أجل إثبات أحقيتها بالدعوة إلى الإسلام دون سواها، وهنا يتفرق المؤيدون لتلك الجماعات تعصباً لها وتأييداً لشيوخها، فيتفتق نسيج المجتمع. إن الإسلام _لما جاء إلى الجزيرة العربية ومنها إلى كل أرجاء الأرض_ وحد من بعد فرقة، وآخى من بعد عداوة، وقت أن كانت الجزيرة العربية وما حولها شتاتاً متناثراً من قبائل متفرقة تتقاتل عقوداً لأتفه الأسباب، فجاء الإسلام فلملم تلك القبائل المبعثرة على كلمة سواء لنزاهة الدعوة وانتفاء الغرضية " الذاتية " انتفاء كلياً وجزئياً، فحول الإسلام الناس من النقيض إلى النقيض، فجعل منهم قادة للشعوب والأمم بعدما كانوا رعاة للإبل والغنم، وحقق الإسلام فيهم المعادلة الصعبة بعدما نزع من قلوبهم ونفوسهم كل أثر لفرقة أو عزلة أو عصبية، أما الآن فحدث ولا حرج..
جماعات وفصائل وفرق تناثرت هنا وهناك، وكل جماعة تعتقد أنها تدعو إلى التمسك بمبادئ الإسلام، لكنها قد لا تدرك في الحقيقة أنها تدعو في الوقت ذاته إلى التعصب والإفراط في مسائل أعطى الدين فيها مساحة للتباين بين إنسان وآخر..لكنها تصر إصراراً غريباً على أن يكون كل أفراد المجتمع نسخاً مكررة في المظهر والسلوك، في دعوة صريحة إلى إفراز قوالب متماثلة في الفكر والتصور والحركة، وهو الأمر الذي دعم مناطق الاحتقان خاصة وأن كل جماعة تدَّعى أنها تعبر عن الإسلام بصورته المثلى والكاملة، فلأي فصيل ينتمي الناس؟!.
ولا يخفى على كل مثقف كيف أعدت تلك الجماعات فئة من الفصحاء والبلغاء قادرة على استخدام مفردات اللغة استخداماً بديعاً بهدف تعبيد طريق إلى قلوب الناس لكسب مودتهم وتأييدهم، ومن ثم خلق قاعدة جماهيرية وشعبية تتحدث عنهم وتؤيدهم، وأنا هنا لا أتجنى على أحد بل أصف الصورة كما أراها بمنتهى التجرد والحيادية.لقد صورت هذه الجماعات والفصائل لعامة الناس أنها قد جاءت بقدر الله إلى الحياة حتى تبسط طريق النجاة والخلاص تحت أقدامهم الغائصة في أوحال الضنك والفقر والجهل والمعاصي من زمن بعيد، واستغلت في ذلك حالة الفراغ الفكري والديني التي يمر بها كثير من أفراد المجتمع خاصة الشباب، فراحت تنسج بدهاء ومهارة ما شاءت من أفكار، وشعارات وأحياناً شائعات تجنح بالناس نحو الخيال المفرط وتغرس في نفوسهم كراهية الواقع والعزلة عن الحياة.
والحقيقة أن فريقاً ليس بالهين قد انساق طوعاً أو كرهاً إلى منطقة التعصب الأعمى لهذه الجماعة أو تلك حتى صارت لديه وطناً وأهلاً وعشيرة يقاطع من أجلها أبيه وأمه وأخيه، وينتصر لها ظالمة كانت أو مظلومة..ينتصر لها من أهله وناسه ووطنه، ويتشدد لآرائها ولو مست جزئيات في الدين تحتمل التباين بين شخص وآخر وفقاً لطاقاته وعلمه، وهم في ذلك لا يعلمون أنهم يناقضون فطرة الله في خلقه، حيث لم يخلق الله البشر على شاكلة واحدة وإلا ما تقدمت الحياة، ولكن ما هي الحيلة فيمن تعصب لرأيه ورفض الرأي الآخر؟..ما هي الحيلة فيمن أغلق رأسه على أفكار بعينها، بل ويريد أن يفرضها على الناس وكأنها الحق المنزل، وعندما نسأل من أين جاءت هذه الأفكار..نسمع أنها جاءت عن "فلان" الذين ينتمي إلى التيار "العلان"، ولذلك فلا غرابة أن نسمع تلميذاً يقول هذا قد ورد في الدين وهذا لم يرد، وهذا حلال وهذا حرام، فمن الذي جرَّأ تلك البراعم حتى أفتت في أمور الدين؟!!..
إن الإجابة لا تحتاج إلى طول عناء. وعلى غرار هذا تناثرت فرق وطوائف وجماعات هنا وهناك بأفكار وأهداف مختلفة تحت شعارات مختلفة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وكل فرقة أو طائفة تتسابق مع الأخرى من أجل استقطاب أكبر عدد من الأشياع و الأنصار والمؤيدين، و هي تستخدم في ذلك طرقاً ملتوية تترنح بين مد وجزر وصعود وهبوط حسب طبيعة الأرض التي تمضى عليها مسوغة ذلك بقاعدة الضرورات التي تتبلور في كثير من الأحيان إلى الغاية تبرر الوسيلة بقصد الوصول إلى أهدافها المعلنة والخفية بأي طريق أو طريقة، وهى في الغالب أهداف تبحث عن الأضواء والشهرة، وهنا تقع الطامة الكبرى التي لا تخفى تداعياتها على أحد.
من هنا فإني أتصور، وهو تصور لا أعفيه من النقد، أن الزمان قد استدار وجاءت إلينا عصبية القرون الأولى بوجه جديد أخل بعلاقة التوازن بين الفرد والمجتمع في مشهد أسس لفكرة الخروج عن الأطر والثوابت العامة التي تحكم المجتمع ككل تحت مبررات الإصلاح والتغيير باستخدام الدين عبر فرق وجماعات تأخذ من الدين ما يروق لها وتتحدث عنه وكأنه كل الدين، وهكذا فإن كل فرقة تبرز توجهها على أنه هو الدين، وأنه الحقيقة والطريق الذي يجب أن يمضى عليه الناس. وإذا كانت كل تجربة تُقيم بنتائجها فأنا أترك المجال للقارئ العزيز كي يضع يديه على نتائج تعدد الجماعات الدينية في أفغانستان..في العراق..وفى غيرها من بلدان العالم ليقيم بمنتهى الموضوعية ما حققته من نتائج على أرض الواقع، ليعرف بنفسه هل خدمت هذه النتائج المجتمع ككل ودفعت به على طريق التنمية أم جرته عشرات السنين إلى الوراء؟!!.
وأخيراً أختم بآية من كتاب الله تتحدث عن هذه الظاهرة..قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } (159) سورة الأنعام.