من الإنصاف القول بأن الظروف التي مر بها الرئيس محمد مرسي عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير، لم تكن بالأمور السهلة بطبيعة الأحوال، غير أن الوعود التي أطلقها كانت توحي بالتغلب على كافة هذه المعوقات. وبالفعل، شهد عهد الرئيس مرسي تطوراً مهماً في بعض الملفات مثل ملف القمح الذي بات الأكثر حضوراً تجاه تحقيق إيجابيات في اقتصاد مصر بعد الثورة، حيث كانت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم بحجم واردات يقترب من سبعة ملايين طن قبل الثورة، لكن بعد الثورة شهدت نوعاً من التطور في مجال إنتاج القمح من خلال تشجيع الفلاحين على زراعته، والتوجه نحو تقليل الاعتماد على الاستيراد، وجعله في أضيق الحدود. وحسب الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، فإن واردت البلاد من القمح قد بلغت على مدار العام المالي (2012 - 2013) نحو (6.6) ملايين طن مقارنة بنحو (10) ملايين طن في العام المالي (2010 - 2011)، أي أن واردات مصر من القمح قد انخفضت في العام (2012 - 2013) بنسبة (34%). وعن قطاع السياحة، فأعلن هشام زعزوع وزير السياحة المصري أن القطاع شهد عام 2012 تعافياً، حيث وفد إلى البلاد (11.5) مليون سائح، وارتفعت إيرادات القطاع إلى نحو عشرة مليارات دولار، وزار مصر في الربع الأول من 2013 ثلاثة ملايين سائح بزيادة (14.6%) مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. التصنيف الائتماني ورغم هذه الإيجابيات - حتى إن كانت من الناحية الرقمية - إلا أن الأوضاع الاقتصادية في مجملها، لم تكن في أحسن حال، حيث شهدت الفترة منذ الثورة وحتى تولي الرئيس مرسي، انخفاضاً في التصنيف الائتماني لمصر للمرة الرابعة. كما شهدت الشهور الأخيرة من العام الحالي أزمة في الوقود، ظهرت بوضوح في مشاهد الطوابير الطويلة أمام محطات البنزين والسولار، كما سجل الدولار الأمريكي في العام الأول من حكم مرسي ارتفاعاً قياسياً مقابل الجنيه، ليصل لأعلى مستوى له في تاريخه، متخطياً مستوى ال(7) جنيهات للمرة الأولى على الإطلاق، مقابل (6.07) جنيهات قبل تولي مرسي في نهاية يونيو 2012. علاوة على ذلك، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن نسبة الفقراء في مصر ارتفعت إلى نحو (25.2%) من السكان، مقارنة بنحو (22%) قبل الثورة، كما أشار إلى أن معدل البطالة ارتفع خلال الربع الأول من 2013 إلى (13.2%)، في الوقت الذي كانت نسبة البطالة قد بلغت (13%) خلال الربع الأخير من 2012، وبلغت (9.1%) في الربع الأول من عام 2010، كما ارتفعت ديون مصر الخارجية إلى نحو (45.5) مليار دولار في عهد مرسي، بعد أن كانت تبلغ (34.4) مليار دولار العام الماضي. وفي ظل هذا المناخ، فإن الفساد يبدو مستشرياً بشكل لا يمكن لمصر أن تتحمله، حيث كشف التقرير السنوي للنيابة الإدارية (وهو التقرير الذي أرسله المستشار عناني عبد العزيز رئيس هيئة النيابة الإدارية إلى الرئيس محمد مرسى حقائق توضح زيادة معدلات حجم الفساد بمصر، وصلت إلى (108) ألف قضية في عام 2012 وحده، مقابل (65) ألفاً و(959) قضية خلال عام 2011، بزيادة قدرها (42) ألف قضية. كما ذكرت شبكة "CNN" الإخبارية الأمريكية أن الفساد في مصر الذي كان أحد أسباب ثورة يناير، أصبح أسوأ مما كان عليه خلال عهد الرئيس حسني مبارك، وذلك للتراخي في الأمن والفوضى التي تعيشها البلاد منذ عامين، وعجز نظام الرئيس محمد مرسي عن السيطرة على الأوضاع، وألمحت ''CNN'' إلى أن الفساد أصبح منتشراً بين الطبقات الصغيرة في المجتمع بعدما كان متركزاً خلال العهد السابق في الوزراء والطبقة التي تليها. تركة ثقيلة ومن الواجب ذكره أيضاً، أن النظام الحالي قد حمل تركة ثقيلة من تراكمات الماضي، خاصة ما يتعلق بقضية الفساد، حيث أشار التقرير السنوي الرابع عشر الصادر عن مركز أبحاث "هيرتدج" المحافظ، - مقره الرئيسي في واشنطن، وينشر سنوياً بالتعاون مع صحيفة "الوول ستريت جورنال الاقتصادية" -، إلى أن مصر خلال فترة الرئيس السابق، قد وقعت تحت المعدل القياسي للاقتصاد الحر؛ بسبب انتشار الفساد الحكومي، وأن رشوة موظفي الدولة في المناصب المتدنية أصبحت "جزءًا من الحياة اليومية"، وأن "هناك ادعاءات بفساد ضخمٍ بين مسئولين رفيعي المستوى" في مصر، الأمر الذي يثير التساؤل حول كيفية حماية الأموال العامة، والقضاء على الفساد بكافة صورة وأشكاله. بداية نود الإشارة إلى أن التشريع المصري شمل العديد من النصوص القانونية التي جرمت الاعتداء، حيث أولى المشرع المصري اهتماماً كبيراً بجرائم إهدار المال العام، وأفرد لها بابين من أبواب قانون العقوبات المصري، وهما الباب الثالث والرابع من الكتاب الثاني من القانون، وعرض في الباب الثالث لجريمة الرشوة والجرائم المتعلقة بها، وخصص الباب الرابع لجرائم اختلاس المال العام والعدوان عليه، والاستيلاء على المال العام أو الإضرار به، سواء في الدستور المصري أو القوانين واللوائح التنفيذية. واعتبر المشرع المصري كل موظف عمومي طلب لنفسه أو لغيره، أو قبل، أو أخذ وعداً أو عطية لأداء أعمال وظيفته، حتى وإن كان يعتقد خطأً أو يزعم أنه من أعمال وظيفته، أو للامتناع عنه، أو للإخلال بواجباتها، أو كمكافأة على ما وقع منه، مرتشياً، ولو لم يقصد عدم القيام بذلك العمل، أو عدم الامتناع عنه، أو عدم الإخلال بواجبات الوظيفة. وحدد قانون الكسب غير المشروع عقوبة كل من استغلال الوظيفة العامة خلال المادة (18) من القانون، بأن "كل من حصل لنفسه أو لغيره على كسب غير مشروع، يعاقب بالسجن وبغرامة مساوية لقيمة الكسب غير المشروع، فضلاً عن الحكم برد هذا الكسب". وبالإضافة إلى تلك التشريعات العقابية، فإن هناك العديد من القوانين التي تعاقب الموظف العام أو المكلف بخدمة عامة بعقوبات تأديبية، إذا خالف القوانين التي تحكم عمله، سواء في إدارة المال العام أو التصرف فيه أو استعماله، إذا لم يترتب على ذلك إضرار بالمال العام. وبداية من دستور 1956 وحتى الدستور الحالي، يعد الحفاظ على المال العام أمراً مفروغاً منه، غير أن هناك تحريفات لبعض نصوصه أو تعديلاً لبعض مواده، قد سمحت بإهداره، حيث أهدرت التعديلات الدستورية التي تمت عام 2007 من تلك الحماية، من خلال تعديل نص المادة (33) من الدستور لتصبح على النحو التالي: "للملكية العامة حرمة، وحمايتها ودعمها واجب على كل مواطن وفقاً للقانون"، وتم حذف عبارة: "على المواطنين حماية ودعم ملكية الشعب باعتبارهاً أساساً للنظام الاشتراكي ومصدراً لرفاهية الشعب العامل وقوة الوطن". وعن الدستور الحالي، فقد أوصي بإنشاء جهاز خاص مستقل لمكافحة الفساد وحماية المال العام في الدولة، فضلاً عن اهتمامه بما نص عليه دستور 1964. ونلاحظ مما سبق أن المشرع المصري اهتم بالمال العام وحمايته اهتماماً كبيراً، وسن القوانين التي تجرم الاستيلاء عليه أو إهداره، إلا أن هناك سؤالاً ما زال يطرح نفسه إذا كان التشريع المصري بكل هذه الصرامة، فكيف يتم إهدار تلك المبالغ الطائلة من الأموال العامة؟. مشكلة أساسية وإذا ما بحثنا عن الأسباب والعوامل المؤدية، فإن المشكلة الأساسية في قضايا إهدار المال العام تكمن في عدم اتصال وعلم الجهات القضائية بوقائع إهدار المال العام. ففي الغالب تحرص الجهة التنفيذية أو الشخصية الاعتبارية العامة على التكتم على هذا النوع من المخالفات المالية والقانونية، كما أن المواطنين بشكل عام ليس لديهم الوعي أو الجرأة الكافية للإبلاغ عن تلك الجرائم، مع عدم تناسب تمكين بعض الجهات الرقابية (سابقاً) مثل الجهاز المركزي للمحاسبات من الإبلاغ عن الجرائم، وإن كان نص في مادته الخامسة من قانونه على أنه "يختص الجهاز بفحص ومراجعة القرارات الصادرة من الجهات الخاضعة لرقابته في شأن المخالفات المالية التي تقع بها"، علاوة على وجود بعض الخلل في القوانين المنظمة لأداء بعض الجهات الرقابية مثل قانون الجهاز المركزي للمحاسبات، فغالباً ما تماطل الجهات الإدارية التي تخضع إلى رقابته في الرد وتسويف الأمور حتى تتمكن من إخفاء ما لديها؛ ولا سيما لأن بعض القوانين قد قيدت من سلطات الجهات القضائية في تحريك الدعوى سواء الجنائية أو التأديبية، علي سبيل المثال قانون "الموازنة العامة" الذي قصر سلطة إحالة المخالفات التي ترد على تطبيق بنود الموازنة العامة على وزير المالية فقط دون غيره. علاوة على ذلك، فقد سمحت بعض القوانين (مثل قانون "المناقصات والمزايدات"، وقانون "الموازنة العامة") بوجود عدد كبير من المخالفات التي تتعلق بعضها بعمليات الإسناد المباشر بمنح سلطات واسعة لبعض رؤساء المصالح والوزراء في السماح بعمليات إسناد بالأمر المباشر، بما يحقق مصالح فئة خاصة بعينها، أو في توزيع النفقات في بعض الوزارات دون غيرها. كما أن بعض المخالفات التي أوردها المشرع في قوانين هامة مثل قانون المزايدات والمناقصات وقانون الموازنة العامة، اعتبرها المشرع من قبيل المخالفات الإدارية، وتقتصر فيها العقوبة على الجزاءات التأديبية، رغم ما قد يترتب عليها من أضرار بالغة. وفي هذا الصدد، يرى المراقبون أنه بالإمكان عملياً الحفاظ على المال العام، أو على الأقل تخفيض عمليات إهداره عبر عدد من الخطوات، ومنها: تشجيع المواطنين على القيام بعمليات الإبلاغ عن إهدار المال العام أو الإفساد فيه بأي وسيلة من الوسائل، كما يجب إعادة الاعتبار لدور المجالس الشعبية المحلية، ليس فقط بضمان نزاهة الانتخابات، ولكن أيضاً إعادة الحق في الاستجواب وسحب الثقة إليها، حتي يمكن لها أن تقوم بدورها في حماية المال العام. ومن الضروري أيضاً، القيام بتعديل قانون الجهاز المركزي للمحاسبات، بحيث يكون من واجبه إبلاغ النيابة العامة بكل الوقائع التي يكتشفها أثناء رقابته للمال العام، مع تقديم ما تحت يده من مستندات بشأنها.