لا يزال الوضع في العراق بكل مستجداته يفرض نفسه على ساحة التطورات في الشرق الأوسط، رغم سيطرة الاهتمام بحالة الثورة التي تعيشها المنطقة العربية وخاصة الأزمة السورية، وما ارتبط بها من تحولات إستراتيجية هامة في منطقة الشرق الأوسط. واستمرت مستجدات المشهد العراقي من المظاهرات والاعتصامات التي شاهدتها بعض المحافظات العراقية، حتى تصاعدت في الآونة الأخيرة أنباء عن قرب العراق من مسلسل التقسيم إلى ثلاث دويلات صغيرة، الأمر الذي يحمل خطورة كبيرة مع استمرار أعمال من شأنها تأجيج نار الفتنة الطائفية، من حيث كونها خلقت أزمة من المتوقع أن تغير المعادلة السياسية التي استند إليها المالكي، منذ وصوله للسلطة في 2006، لصالح مزيد من الحضور للقوى السياسية في البلاد. ولكن هل يجد التقسيم مبرراته ليصبح عملياً؟ وهل غالبية الشعب العراقي يريدون التقسيم؟ ثم ماذا بعد التقسيم؟ هل سيضع حداً للأزمة المحتدمة؟ وهل هذا التقسيم سيوقف من وقوع المجازر؟ وهل من السهولة رسم الحدود؟ كل هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عليها خلال السطور التالية. ذرائع التقسيم وتجد هذه الدعوات الانقسامية في الانفصال، أمراً جيداً للخروج من عنق الأزمة السياسية الطاحنة، وحلاً مناسباً للخلافات والصراع الطاحن والتجاذب السياسي. ومن ناحية أخرى، على الرغم من أن الدستور العراقي نص صراحة على إنشاء الأقاليم، لكن حينما تشكل هذه الأقاليم على أساس طائفي، فإن دعوات حصر الخيارات بين الإقليم والمواجهة الدامية تصبح فقط مبرراً لتقسيم البلاد، مع أن المشكلة تكمن في اختيار نظام الحكم لأسلوب يعتمد على الطائفية والمحاصصة السياسية. والجديد في الأزمة التي يعيشها العراق مؤخراً، المظاهرات التي أطلقتها بعض القوى السنية، وتزايد دورها كقوى لها مطالب سياسية، تحركها حسابات اجتماعية واقتصادية؛ نتيجة استمرار سياسات حكومة "المالكي" في أولوية اقتسام السلطة السياسية على تحسين الظروف المعيشية للمواطنين، وهو ما قد يلعب دوراً في تحرك الشارع؛ ليتخلى عن مطالبه الاجتماعية والاقتصادية التي تصدرت مظاهرات 2011، لصالح مطالب سياسية مرتبطة بنصيب السنة من السلطة. وبالتالي، صارت اللغة الطائفية أساساً في الواقع السياسي والحياة العراقية العامة، وخاصة بعد دعوات حصول كل طائفة على حصتها من أرض الوطن، فمثلاً الطائفة السنية تأخذ دويلتها في المنطقة الغربية، والطائفة الشيعية تأخذ دويلتها في الوسط والجنوب، بينما إقليم كردستان ليس لديه مشكلة؛ لأنه يشهد استقراراً سياسياً وأمنياً حتى قبل نظام صدام حسين. وعلى مستوى آخر من مبررات وذرائع تقسيم العراق، يمكن الحديث عن أن ظهور الثروات في بعض المناطق يجسد إيحاءً خفياً بتغذية النزاعات الطائفية، ودفع قوى الصراع للتفتيش عن المصلحة الضيقة، ولو على حساب الوحدة وتأييد الانفصال وتكريس التجزئة، خصوصاً أن هناك "من يصب الزيت على النار" من قوى أجنبية صاحبة مصلحة فيما يمكن أن يحدث، في ظل الإغراء باستثمار هذه الثروات ومنح مزايا نسبية. تداعيات ونتائج وعلى مستوى التداعيات والنتائج التي سيقودها سيناريو التقسيم، يمكن القول بأنه إذا حاد العراق عن التعايش السلمي بين الطوائف الدينية، سوف تكون التربة قد نضجت لبيئة من التنافس والصراع الطائفي وتأجيج الأزمات السياسية. وفي نفس السياق، يبدو أن احتمال تقسيم العراق يحمل بين طياته الكثير من التساؤلات التي تعد بمثابة "قنابل موقوتة"، فمن ناحية يثور التساؤل حول كيفية رسم الحدود في حالة تقسيم العراق إلى الدويلات الثلاثة المصطنعة، بل والأكثر من ذلك هناك خطورة حول ما يرتبط بهذه العملية من حدوث مناوشات على الأراضي المتنازع عليها، حيث من الممكن أن تحل بأجواء الحرب الأهلية التي وجدت طريقها في بعض الأحيان، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي من العراق. ومن ناحية أخرى، هناك مخاوف من عمليات توزيع ثروات الوطن بين الدويلات الثلاثة، وما يتعلق بها من طبيعة لمستقبل العلاقة بين مواطني هذه الدويلات، وما يترتب عليها من العصف بمبدأ المواطَنة، فبعد أن يتم اتخاذ الدين معياراً لصنع هوية جديدة، فإن ذلك يتنافى مع الفهم الصحيح للدعوات الروحية. وهناك أيضًا تداعيات مجهولة حول مصير الطوائف الدينية والعرقية الأخرى، وغير ذلك من الآثار المترتبة على العمليات الاقتصادية مثل العملة الموحدة، ثم بغداد، لمن ستكون لطائفة الشيعة أم لطائفة السنة؟ وعلى المستوى الإقليمي، قد تعكس تلك المظاهرات بداية تحول ما في معادلة النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل في تآكل شرعية الحكم الموالي ل"إيران" في العراق، خاصة أن القوى الرئيسة المحركة للمظاهرات تتألف من العشائر السنية وبعض القوى التي تحظى بقبول ما من الدول المنافسة لإيران في المشرق. والواقع أن الحساسيات الدينية التي وجدت طريقها في العراق خاصة بعد الغزو الأمريكي عام 2003، فضلاً عن إذكاء مشاعر التطرف الديني، لعبت هي الأخرى دوراً مؤثراً في تأجيج نيران الانفصال ودوافع التقسيم، كما أن شيوع روح التطرف وبروز مظاهر التعصب الديني، قد ساهمت كلها فيما نشهده الآن من ارتفاع نبرة التقسيم والتجزئة، والاتجاه نحو البحث في الهوية الصغيرة على حساب القومية الأكبر. ففي الوقت الذي يحذر خلاله موفق الربيعي مستشار الأمن القومي العراقي السابق - من تقسيم "العراق"، قائلاً: "إذا استمررنا على هذا المنوال، سوف نتجه إلى حرب أهلية يعقبها تقسيم للبلاد إلى شيعة وسنة وعرب وأكراد، الأمر الذي سيتسبب في إسالة الدماء بين العراقيين، مثل انقسام "باكستان" و"الهند""، يرى نائب الرئيس الأمريكي "جو بايدن" أن إنشاء الأقاليم الثلاثة (شيعي - سني - كردي) بات خياراً ملحاً وضرورياً لاحتواء الأزمة في العراق. بين الدم والتقسيم وبعد الوصف السابق، يبدو أن العراق أصبح على مفترق طرق، وإذا صح القول أن هذه الطرق تقتصر على اثنين فقط، فإما أن ينفلت الوضع وتسيل الدماء في الشوارع، وإما أن يعمّ السلام في البلاد وتتحقق الإصلاحات السياسية المنشودة. وعلى مستوى الخيار الذي يمثله الطريق الأول، يصبح هناك تساؤل واحد، وهو هل يُوضع العراقيون أمام خياري "الدم أو تفتيت العراق"، وهما بالفعل خيارين أحلاهما مر. وإذا افترضنا حدوث الخيار الثاني وهو التراجع عن شعارات التقسيم والتمسك بوحدة "العراق"، فإن هذا الخيار لا يتحقق إلا مع بدء إصلاح الوضع للوصول إلى مصالحة وطنية حقيقية، من خلال قيادة سياسية يكون العدل شعارها، بحيث لا يبحث العراقي عن صراع. أي أن هذا الوضع يتحقق إذا احتكمت الأطراف السياسية في البلاد إلى الجرأة والإرادة في إصلاح العملية السياسية، والاتجاه نحو المسار الديمقراطي الذي يخدم تطلعات وطموحات الشعب، بما يجعل مستقبل ومصير "العراق" يكمن في الاقتراب من الأسلوب الديمقراطي في الحكم، وفي التعامل السياسي، وبالأخص احترام الدستور. باحث بمركز الدراسات والبحوث