هي شريان الحياة وأساسها وأهم الموارد الطبيعية على الإطلاق، كما أنها عصب الحياة والعمود الفقري لها فبدونها لا يمكن لكائن حي أن يعيش، ولا يمكن لأغلب الآلات أن تعمل وبقلتها تتدنى كل الفعاليات الاقتصادية والأنشطة البشرية فهي التي تسير عجلة الحياة، ومن هذا المنطلق ربما تكون الحرب القادمة في منطقة الشرق الأوسط هي "حرب مياه" ، وذلك نظراً لتقلص كميات المياه بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة ، ونظرا لذلك فربما سينصب الاهتمام الأكبر لدى دول الشرق الأوسط على تأمين حاجاتها من المياه . ونجد أن المياه سوف تلعب في المستقبل دوراً مهماً على نحو متزايد في النزاعات المحلية والدولية بين العديد من البلدان ، فالصراع على المياه ربما يكون سمة المستقبل ذلك أن تحقيق الأمن المائي يعتبر من أهم الأولويات في المرحلة المقبلة لذلك فإن النزاع على المياه قد يكون من العوامل المضافة إلى العوامل الموجودة المسببة لعدم استقرار المنطقة. وكانت منظمة اليونسكو قد أكدت أن الوطن العربي سوف تجتاحه أزمة مياه حادة بعد حلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مما سوف ينعكس على الإمدادات الغذائية وينعكس سلبا على الإنتاج الصناعي وهذا يعتبره الخبراء أخطر مأزق تاريخي تواجهه الأمة العربية.
تقلص المياه ويبدو أن التحذير الذي أعلنت عنه "منظمة المياه الأوروبية" في أواخر القرن العشرين من إمكانية جفاف نهر دجلة بالكامل بسبب مشاريع تركيا وإيران التي لها دوافع سياسية واقتصادية في آن واحد ، يتأكد الآن وذلك بعد أن كشفت دراسة حديثة ، أجراها علماء من وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" بالتعاون مع جامعة كاليفورنيا والمركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي، أن حجم المياه في منطقة الشرق الأوسط يتقلص سريعاً ، وهو ما اثار القلق حول احتياطي المياه العذبة .
وبحسب الدراسة، فقد وجد الباحثون إنه بين العامين 2003 و 2009، فقدت منطقة أحواض نهري دجلة والفرات ما يعادل 144 كيلومتراً مكعباً من المياه، وهي الكمية الموجودة في البحر الميت تقريباً. وأشارت الدراسة إلى أن البحر الميت سيختفي سريعاً من منطقة الشرق الأوسط بسبب نقص الأمطار وعوامل أخرى.
ونجم 20 في المائة من سبب هذه الخسارة عن الجفاف الذي ضرب المنطقة عام 2007 بالإضافة إلى نقص تهاطل الثلوج، وأن تبخر المياه السطحية في بحيرات المنطقة ساهم في نسبة مماثلة من سبب الخسارة.
غير أن ضخ المياه الجوفية ساهم في النسبة الأكبر من خسارة المياه، وشكلت 60 في المائة من إجمالي الخسارة، في الدول المتشاطئة، وهي تركيا وسوريا والعراق وإيران.
كما أشارت الدراسة إلى أن منطقة الشرق الأوسط ثاني أكثر منطقة خسارة للمياه بعد الهند، كذلك أوضحت أن دول المنطقة تعاني من الجفاف ونقص الأمطار بسبب التغير المناخي. واعتمدت هذه الدراسة على المعلومات، التي تم جمعها خلال 84 شهرا، في إطار البرنامج الخاص بتقرير مخزون مياه الأنهار، من ثلوج ومياه على السطح الرطب في العالم أجمع. ووصف "جاى فامجليتى" أحد فريق بحث جامعة كاليفورنيا، نتائج التى انتهت الدراسة التى نشرت بمجلة بحوث الموارد المائية ونقلت مجلة "فورين بوليسى" ملخصًا عنها، قائلا :"إنها تنذر بالخطر حول انخفاض اجمالي مخزون المياه في أحواض النهرين التي تمثل أسرع ثاني معدل خسارة للمياه الجوفية على الأرض بعد الهند"، مشيرا إلى تسارع المعدل بعد موجة الجفاف فى 2007، وأنه فى الوقت ذاته يزيد الطلب باستمرار على المياه العذبة، وتعمل المنطقة على تنسيق إدارة المياه لديها بسبب التفسيرات المختلفة للقوانين الدولية.
حروب مياه
وبينما تلقى حروب المياه بظلالها كمصدر كبير مقبل للصراع العالمى، فإن بيتر بروكس الباحث فى الأمن المائى، يرفض الضجيج المثار، مشيرا إلى أن الأمر ليس بجديد واستعان بمقولة أحد الخبراء القدامى قائلا: "الويسكى للشرب والمياه للقتال".
وأوضح "بروكس" أنه فيما يتعلق بنهر دجلة والفرات، التي تقف في مركز النزاعات الحدودية والصراعات على الأقلية الكردية وحاليا الصراعات الرئيسية في سوريا والعراق، فإنها قد تكون أكثر عرضة لآثار عدم الاستقرار المائي أكثر من أي مكان في العالم.
وتشير "فورين بوليسى" إلى أنه في عام 2009، وردا على النقص الشديد في المياه، طالب البرلمان العراقى بزيادة حصة البلاد من مياه النهر التركي. ورغم هذا واصلت تركيا بناء السدود، وبينما يمتد عدم الاستقرار الإقليمى إلى سوريا والعراق، فإنه من المتوقع أن تلعب المياه دورا مهما على نحو متزايد فى النزاعات المحلية والدولية بين البلدان الثلاث مستقبلا.
وتختم المجلة الأمريكية قائلة إن الحرب الأهلية السورية شهدت بالفعل معارك ضارية حول السدود، وقد تتغير الديناميات الإقليمية مع سعى إيران للحصول على مياه من أفغانستان. كما لو أن الشرق الأوسط بحاجة للبحث عن أمر جديد للصراع حوله.
تحديات وعقبات كما أكدت دراسة دولية أصدرها البنك الدولي خلال العام الماضي ان منطقة الشرق الاوسط سوف تواجه أزمة طاحنة فى المياه خلال العقود الثلاثة القادمة . مؤكدة ان مواجهة تلك الأزمة سوف تتوقف على تحلية مياه البحر ودعم مشروعات الطاقة الجديدة والادارة الرشيدة لطلب واستهلاك المياه.
وأضافت الدراسة ان ندرة المياه أضحت تحديا. يواجه التنمية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فى ضوء زيادة السكان ومعدلات النمو الاقتصادي المتوقعة . مشيرة الى ان حكومات المنطقة ينبغي عليها اعطاء الأولويات لمشروعات إدارة الطلب على المياه وخاصة فى قطاع الزراعة الذى يستهلك النصيب الأكبر من المياه وان مواجهة فجوة الطلب على المياه يستلزم تنفيذ مشروعات لتحلية مياه البحر . مشيرة الى ان تحلية مياه البحر ايضا تواجه العديد من التحديات من بينها ارتفاع التكلفة وكثافة الطاقة وتلوث البيئة نتيجة الغازات المنبعثة.
وشددت الدراسة التى اعدها البنك الدولي بشأن أزمة المياه بمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا على ان مواجهة العقبات التى تعوق مشروعات تحلية مياه البحر تستلزم خفض تكاليف العملية وتجنب الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية الضارة بالبيئة واستبدال ذلك بمصادر طاقة صديقة للبيئة كالطاقة الشمسية مثلا.
وتوقعت الدراسة زيادة العجز المائى بنحو خمسة أضعاف فى المنطقة بحلول عام 2050 ليصل الى 200 كيلو متر مكعب نتيجة ارتفاع معدلات الطلب ونقص المعروض المائيِ والتداعيات الناجمة عن التغيرات المناخية وحذرت من استمرار العجز المائى فى الارتفاع مما يهدد اقتصاديات المناطق الريفية التى تعتمد على الزراعة بشكل مباشر.
وحثت الدراسة المنطقة على تبنى برامج لتعظيم الاستفادة من مصادر المياه وسياسات زراعية متطورة وخفض الدعم لمشروعات حفر الابار لمواجهة ازمة ندرة المياه مؤكدة ان معدلات الفاقد من المياه بالمنطقة مازالت الاكبر على مستوى العالم. وأكدت الدراسة انه لابد لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا من الحفاظ على مخزون المياه الجوفية وتجنب اهداره لمواجهة الطلب المتزايد على المياه فى المستقبل مع الاستفادة من تكنولوجيا تحلية مياه البحر بما يحقق ايجاد موارد مائية جديدة ودائمة وتوفير الطاقة بقطاعات المياه والحفاظ على البيئية.
الانفجار السكاني وربما يكون نقص المياه خلال السنوات الأخيرة ناجما عن تصاعد الطلب على المياه في أعقاب تزايد السكان على مستوى العالم وخاصة في دول العالم المتطور، فإبان الخمسينيات من القرن الماضي كان عدد سكان العالم 2.5 مليار شخص، وتضاعف هذا العدد في عام 1990 وأصبح 5.3 مليارات، ومن المتوقع أن يصل عدد سكان العالم في سنة 2025 إلى ثمانية مليارات، أي بزيادة سنوية تصل إلى 90 مليونا.
ويرى أرنون سوفر الباحث والمحاضر في جامعة حيفا في كتابه "الصراع على المياه في الشرق الأوسط" أن النقص في المياه ليس مرتبطا فقط بالتلوث البيئي أو الظواهر الطبيعية وزيادة عدد السكان، وإنما في الاستخدام المتخلف في معظم دول العالم بطرق فاسدة، كما أن استخدامها متأثرا باعتبارات سياسية طبيعية تمنع استغلال المياه بصورة مثالية. وإذا استمرت هذه الأمور فإنه من المتوقع أن تكون هناك أزمات وكوارث في مناطق واسعة من العالم تؤدي إلى تعريض الأمن الاقتصادي والاجتماعي للخطر.
ويعتقد المؤلف أن دول الشرق الأوسط غارقة في الجهود والمثابرة في التوازن بين تزايد عدد السكان وإنتاج الغذاء والطاقة، موضحا أنه خلال العقود الأخيرة بدأت هذه الدول رغبة شديدة في البحث عن تطوير أماكن المياه الموجودة في حدودها وهي على الأغلب الأنهار الدولية، دون الاهتمام باحتياجات الدول المجاورة. وهنا فإن الدول العليا والتي يوجد داخل حدودها أنهار تستغل المياه دون الاهتمام بالدول السفلى والتي هي طبيعيا تستخدم نفس النهر الذي يخترق حدودها، والنتائج التي لا يمكن تجنبها هي النزاعات المتصاعدة التي تزداد خطورة.
ويوضح سوفر بالرغم من أن معظم الاتفاقات حول الأنهار الدولية في الشرق الأوسط وقعت بين الدول الشرق أوسطية وبين دولة عظمى أوروبية، أو بين دولتين عظميين أوروبيتين كانتا تسيطر على أراضي المنطقة، كالاتفاق على استخدام مياه نهر الفرات ونهر اليرموك في الأردن الذي وقع بين فرنسا وبريطانيا، ووثيقة أخرى وقعت بين مصر وبريطانيا سنة 1929، حددت توزيع المياه بين مصر وبين مناطق الانتداب البريطاني في السودان ، إلا أن هذه الاتفاقيات لم توقف النزاعات الكبيرة حول ما يتعلق باستغلال مياه الأنهار الدولية.
ويشير المؤلف إلى أن أحد هذه النزاعات المعقدة هو موضوع استخدام مياه نهر الأردن، فالسكان الذين يستخدمونه يتكاثرون بسرعة، وحل مشكلته مرتبطة بحل النزاع العربي الإسرائيلي، كما أن هناك نزاعات صعبة بين تركيا وشركائها في استخدام مياه نهري دجلة والفرات.
حلول بديلة وفي 2006 كشفت شركة "ماتيتو" المختصة بمعالجة المياه وتحليتها عن نقص كبير في إمدادات المياه العذبة في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وذلك خلال ترؤسها للدورة الأولى لمؤتمر الشرق الأوسط للمياه وإدارة مياه الصرف الصحي بدبي. وأكدت الشركة: "ان هذه المعضلة يتم العمل حاليا على مواجهتها عبر استثمارات كبرى بمشروعات التحلية وإعادة استخدام المياه".
وقال المدير التنفيذي لماتيتو فادي خويس :"يعاني نحو 45 مليون شخص في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من نقص المياه العذبة كما يعاني أكثر من 80 مليون شخض من عدم توافر نظم الصرف الصحي الآمنة وهو الأمر الذي يدق بشكل متزايد ناقوس الخطر في ظل الحقيقة الصحراوية لهذه المنطقة من العالم فإن الأخبار السارة أن دول منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تدرك الحاجة إلى ضرورة توفير حلول بديلة بما يمكنها من الإيفاء بالطلب المتزايد على المياه العذبة اذ يتم حاليا استثمار أكثر من 120 مليار دولار لمعالجة مياه الصرف الصحي في المنطقة خلال العشر سنوات المقبلة خصوصاً في السعودية ومصر والإمارات".
وأضاف خويس حسبما جاء بصحيفة "الوسط" البحرينية :" تظل منطقة الخليج السوق الأضخم لقطاع تحلية المياه في العالم كما تقوم البلديات المحلية بشكل جاد باستعراض السبل الكفيلة بمضاعفة طاقتها الحالية للإيفاء بالطلب الإقليمي كما أن هناك مناطق جافة أخرى في المنطقة تنمو بمعدل مهول مثل الجزائر وليبيا بأرقام نمو تتجاوز 300 في المائة".
أزمة حقيقية وتعليقاً على تقرير وكالة ناسا قال الدكتور محمد نصر الدين علام وزير الرى المصري الأسبق على فى تصريح خاص لبوابة "الشباب" قائلا :"نحن بالفعل نعيش أزمة مياه فى الشرق الأوسط منذ فترة طويلة وأبسط دليل على ذلك هو أن دول الخليج تعيش بأكملها على تحلية المياه . أما فى فلسطين فإن نصيب الفرد لا يتعدى 150 متراً مكعباً فى السنة بالإضافة إلى ان لديهم قيود على الحصول على المياه ،وكذلك فى الأردن .اما فى مصر فنصيب الفرد فى السنة وصل إلى 625 متر مكعب ويتناقص هذا المعدل بمرور الوقت وكذلك فإن ليبيا تعانى مشكلة فى المياه حيث يقدر نصيب الفرد هناك بأقل من 300 متر مكعب فى السنة". وأضاف "من هنا فإننا لدينا أزمة حقيقية ونقص واضح فى كميات المياه التى نحتاجها لأغراض الشرب والصناعة والزراعة فى دول الشرق الأوسط". وتابع انه فيما يتعلق بمصر فإننا نعانى من عدم توافر كميات المياه اللازمة لترعتى السلام والحمام ، كذلك علينا أن ننتبه بشدة إلى "سد النهضة" الذي أقامته أثيوبيا فى إبريل 2011 والذى سوف يؤثر بشدة على حصة مصر من مياه نهر النيل بالإضافة إلى أن الزيادة السكانية بدورها سوف تؤدى إلى تناقص حصة الفرد من المياه في مصر. ويؤكد د.علام أنه منذ إنشغالنا بالأوضاع الداخلية بعد ثورة 25 يناير 2011 وبدأت أثيوبيا فى إنشاء السدود التى سوف تؤثر على مصر بما لا يقل عن 9 مليار متر مكعب وبالتالى على المسئولين إتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه هذه المشكلة حتى لا نعانى أزمات أكبر فى المستقبل .
ويرى المحللون المهتمون بالأحداث العاصفة التي يمر بها الشرق الأوسط أن سبب المشكلات كانت عوامل واعتبارات سياسية أو اقتصادية, خاصة التضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة, ولم يكن الماء ضمن حسابات أحد ممن يبحث عن جوهر المشكلات, لكن من الواضح أن النقص الحاد في المياه وسوء إدارة الموارد المائية والصراعات حول المشاركة في الموارد المائية, سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار.
وفي النهاية نؤكد أنه رغم ما يتعرض له الشرق الأوسط من موجات متلاحقة من التحولات السياسية وأحداث متدافعة تحمل رياح التغيير، غير أن أهم من ذلك كله هو خطر العطش الذي يهدد المنطقة .