يعتبر السد العالي الذي تحتفل مصر بالذكرى ال 53 لبنائه مشروع إرادة وطنية مصرية أنجزته ثورة يوليو 1952، التي بدأت مسيرة التنمية الزراعية في مصر بالتخطيط لهذا المشروع العملاق الذي ساهم في تنمية الرقعة الزراعية وترشيد استهلاك المياه وتخزينها لإعادة استخدامها وقت الجفاف، وتأتي ذكرى بناء السد الذي بدأ العمل به في التاسع من يناير عام 1960، لتكشف للعالم عن رحلة التحدي التي خاضتها الأمة المصرية وقيادتها آنذاك لبناء أعظم مشاريع القرن العشرين الهندسية. فكرة المشروع: كانت البلاد في حاجة لزيادة الرقعة الزراعية لتقابل زيادة السكان، كما أن مياه النيل لم تكن تفي بحاجات الري، كانت أول محاولة سجلت لبناء سد قرب أسوان في القرن الحادي عشر الميلادي، عندما استدعى المهندس العراقي الحسن ابن الهيثم إلى مصر من قبل الخليفة الفاطمي، الحاكم بأمر الله لتنظيم الفيضان من النيل ولكن الفكرة لم تتم، لعدم توفر الآلات اللازمة لبنائه في عهده.
وفي الأربعينات من القرن العشرين عرض مهندس يوناني يدعى «دانينوس» فكرة إنشاء السد على الحكومات المصرية في عهد الملك فاروق، ولم تلق الفكرة قبول المسئولين ثم عرضها مرة أخرى على حكومة ثورة 23 يوليو عام 1953، وتم تكليف قائد الجناح جمال سالم بتولي رئاسة المشروع ودراسته.
وكانت فكرة إنشاء السد في الأساس أن يتم بناؤه في الهضبة الإثيوبية بالقرب من مخرج بحيرة "تانا"، ثم عدلت الفكرة بناءً على رغبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وتم بناؤه في أسوان، بدلاً من أثيوبيا.
واتخذت الحكومة المصرية قرارها بشأن مشروع بناء السد العالي في عام 1954، وقدر رأس المال المستثمر في المشروع ما بين 690 مليون دولار إلى 1,5 مليار دولار، وفي التاسع من يناير 1960، وضع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حجر الأساس للحلم القومى، وتم تفجير أول شحنة ديناميت نسفت حوالي 20 ألف طن من الصخور لتحويل مجرى نهر النيل لبدء بناء السد العالي الذي أقيم على مسافة سبعة كيلو مترات جنوبي خزان أسوان.
الرفض الغربي: تم طرح المشروع آنذاك على الولاياتالمتحدة وبريطانيا، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، الذي تملك فيه هاتان الدولتان صوتاً نافذاً، إلا أن عدم التوصل إلى اتفاق سياسي بين واشنطنوالقاهرة حول مبيعات السلاح، وقرار الرئيس عبد الناصر بشراء الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا، أدى إلى انسحاب واشنطن ولندن من الإسهام في المشروع بعد أن رفضت مصر طلبهما بالإشراف الخارجي على اقتصادها.
وجاء رد فعل مصر بتأميم قناة السويس في نفس الشهر، وأعلنت أنها ستستخدم عائداتها في تمويل بناء السد العالي، وفي أكتوبر ونوفمبر 1956 تعرضت مصر لعدوان من إسرائيل وبريطانيا وفرنسا نتيجة قرار التأميم، وبعد ذلك بات تنفيذ إنشاء السد العالي، على المستويين السياسي والاقتصادي، مهمة عاجلة لحكومة عبد الناصر.
ووافق الاتحاد السوفيتي على تقديم سلفة أولية قيمتها 320 مليون دولار في عام 1958، وأسهم في جميع مراحل تصميم وبناء السد العالي، وأنشأت الحكومة المصرية هيئة إدارية خاصة للإشراف على المشروع.
ونتيجة لأعمال البناء في السد جرى تهجير سكان النوبة الذين كانوا قد استقروا في المناطق الواقعة شمال السد وحول كوم أمبو، وتم حل المشاكل الناجمة عن تعرض آثار أبو سمبل للغرق في البحيرة التي تقرر إنشاؤها خلف السد بمشاركة اليونسكو، حيث نظمت حملة عالمية لجمع الأموال اللازمة لرفع ثلاث معابد كبيرة اثنان في "أبو سمبل" وثالث في معابد فيلة.
وأصبح السد العالي بأسوان يتقدم واحدة من أكبر الخزانات الصناعية في العالم – بحيرة ناصر – التي تغطي مساحة 2000 ميل مربع.
وصف عام للمشروع: تم اختيار موقع السد جنوب خزان أسوان والسد القديم بحوالي 6,5 كم باعتباره أنسب وأصلح المواقع لضيق مجرى النيل نسبياً في ذلك الموقع وقربه من مصادر مواد الإنشاء بالإضافة إلى إمكانية استيعاب حوض التخزين لكميات ضخمة من المياه، بالإضافة إلى قرب هذا الموقع من مدينة أسوان بما يؤمن الاحتياجات الخدمية اليومية للعاملين بالمشروع.
وبعد دراسات وأبحاث عالمية عديدة تم تصميم السد العالي بحيث يكون من النوع الركامي ومزود بنواة صماء من الطفلة وستارة رأسية قاطعة للمياه يبلغ منسوب قاع السد 85 متراً، ومنسوب قمة السد 196 متراً، وطول السد عند القمة 3830 متراً، بينما يبلغ طول السد بالمجرى الرئيسي للنيل 520 متراً، وعرض قاعدة السد 980 متراً، عرض السد عند القمة 40 متراً، عمق ستارة الحقن الرأسية 170 متراً.
وبعد تمام الإنشاء تُكون المياه المحجوزة أمام السد بحيرة صناعية كبرى يبلغ طولها في المتوسط حوالي 500 كم ومتوسط عرضها حوالي عشرة كيلو مترات لتُكون مسطح مائي حوالي 5000 كم 2 مما يجعلها ثاني أكبر بحيرة صناعية من صنع الإنسان في العالم والمنسوب التصميمي لأقصى سعه تخزين بالبحيرة يصل إلى 183 م بسعة تخزينه قدرها 164 مليار متر مكعب عند أقصى منسوب للتخزين، منها 30 مليار متر مكعب لتجميع الطمي على مدى أكثر من 700 عام.
وتوجد محطة الكهرباء عند مخارج الأنفاق حيث يتفرع كل نفق إلى فرعين مركب على كل منهما توربينة لتوليد الكهراباء: ويبلغ عدد التوربينات 12 توربينة وقدرة التوربينة 175 الف كيلووات، بينما تبلغ القدرة الإجمالية للمحطة 2.1 مليون كيلو وات، أما الطاقة الكهربية المنتجة فتبلغ 10 مليار كيلووات ساعة سنوياً.
وتم إنشاء مفيض توشكي في نهاية عام 1981 لوقاية البلاد من أخطار الفيضانات العالية وما يمكن أن يسببه إطلاق المياه بتصرفات كبيرة في مجرى النهر من نحر وتدمير للمنشآت المائية المقامة عليه حيث يتم تصريف المياه – إذا زاد منسوبها أمام السد العالي عن 178 متراً- من خلال مفيض توشكى إلى منخفض يقع في الصحراء الغربيةجنوب السد العالي بحوالي 250 كيلومتراً وهو منخفض توشكى - وقد دخلت المياه إلى مفيض توشكى لأول مرة في 15 نوفمبر 1996 حيث وصل منسوب المياه أمام السد العالي إلى 178.55 متراً.
يتبع السد العالي الآن شركة المحطات المائية لإنتاج الكهرباء والتي تضم إلى جانب السد محطة توليد أسوان الأولى، ومحطة توليد أسوان الثانية.
سلاح ذو حدين: عمل السد على التوسع في المساحة الزراعية نتيجة توفير المياه مما أتاح ثلاث زرعات كل سنة، وحمى البلاد من كوارث الجفاف والمجاعات نتيجة للفيضانات المتعاقبة شحيحة الإيراد في الفترة من 1979 إلى 1987 حيث تم سحب ما يقرب من 70 مليار متر متر مكعب من المخزون ببحيرة السد العالي لتعويض العجز السنوي في الإيراد الطبيعي لنهر النيل. كما حمى السد مصر أيضاً من أخطار الفيضانات العالية التي حدثت في الفترة من 1998 إلى 2002. وساعد على توليد الكهرباء التي أفادت مصر اقتصادياً.
إلا أن له بعض الآثار السلبية، فقد أدّى إلى تعرض العديد من القرى النوبية للغرق، وهذا أدى إلى إجبار أهلها على ترك منازلهم والترحال إلى أماكن أخرى. كما أدَّى إلى غرق آثار النوبة؛ ومن هنا جاء النداء الدولي من "اليونسكو" إلى دول العالم لتقديم الدعم المادي والعلمي لإنقاذ تلك الآثار ونقلها من مكانها الذي تتعرض فيه لارتفاع منسوب المياه بشكل دائم. هذا إلى جانب أن وجود السد العالي أدى إلى حرمان أراضي وادي النيل من الطمي المغذي للتربة، الأمر الذي أثَّر بالسلب على جودة الأراضي الزراعية وعلى جودة المزروعات. كما حدث تآكل لشواطئ الدلتا بسبب انعدام وجود الطمي إلى جانب الاحتباس الحراري وذوبان جليد القطب الشمالي والجنوبي. هذا بالإضافة إلى فقدان جزء كبير من المياه التي يتم احتجازها في بحيرة "ناصر" عن طريق البحر، وذلك بسبب تعرض مساحة كبيرة من المياه للشمس الحارقة في جنوب البلاد.
مخاطر حديثة: يواجه السد مخاطر طبيعية ومخاطر سياسية، فأما المخاطر الطبيعية يأتي في مقدمتها مخاطر إنشاء السدود الأثيوبية والتي من المحتمل أن يكون لها آثار تدميرية علي دولتي المصب.
وقد قام فريق عمل من وزارة الري والموارد المائية بدراسة تأثير انهيار سد النهضة الآسيوي ووجد أنه سيؤدي إلى تدمير سدي الروصيرص وسنار علي النيل الأزرق في السودان وغرق الخرطوم في موجة فيضان يصل ارتفاعها إلي 9 أمتار، ويمتد أثر هذه الموجة التدميرية إلي الشمال في اتجاه مصر وتحطيم السد العالي.
كما ترفع مناسيب الفيضانات العالية مخاطر على جسم السد، ففي سنة 2008 ارتفع منسوب فيضان النيل عن السنوات الماضية، وأسفرت خطة وزارة الري والموارد المائية عن التخلص من حوالي 17 مليار متر مكعب من المياه في البحر نتيجة الخوف على جسم السد العالي من تأثير المنسوب العالي للفيضان.
واعترف الدكتور محمود أبو زيد وزير الري والموارد المائية الأسبق بوجود إهمال في حماية جسم السد العالي وأشار إلى أنه تم تحديث منظومة حماية السد بعد تكرار السرقة حيث تقرر منع الدخول لمنطقة السد بعد الخامسة مساء إلا بتصريح، وتم إنشاء منظومة أمنية جديدة تضم كاميرات تليفزيونية لمراقبة المداخل والمخارج وترتبط بغرفة تحكم مركزية، فضلاً عن توفير أجهزة تكشف عن المتفجرات والأسلحة.
وأما المخاطر السياسية، فهي تلك التهديدات التي يطلقها اليمين المتطرف الإسرائيلي بشن حرب ضد مصر وتدمير السد العالي إذا تحركت القوات المصرية في سيناء؛ الأمر الذي دفع الرئيس السابق حسني مبارك للتأكيد على استعداد القاهرة للدفاع عن نفسها في حالة الاعتداء عليها، داعياً الإسرائيليين إلى عدم جر المنطقة لمشاكل. فهل يجد السد من يحميه ويفكر في المخاطر التي تتكبدها البلاد - لا قدر الله - حال تعرضه لسوء؟