"العلماء ورثة الأنبياء"[1] هذا التقرير النبوي الصريح يعبر عن مكانة العلماء في الأمة الإسلامية ودورهم الرائد في قيادتها علمياً وفكرياً، وإذا تكلمنا عن تاريخنا المعاصر ومن برز فيه من العلماء العاملين لدين الله، فإننا لا نستطيع أن نغفل الإمام محمد عبده رحمه الله.
ساهم محمد عبده بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود، وشارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.
فعندما نتحدث عن الإمام محمد عبده، فإننا لا نتحدث عن فيلسوف عبقري، ولا عن مصلح مكافح، ولا عن عالم بارع، ولا عن مفت واع، بل نتحدث عن كل هؤلاء في شخص ذلك الإمام العالم المجدد، ولنتعرف على جانب من حياته ونشأته.
مولده ونسبه
ولد الإمام محمد عبده في عام (1266ه - 1849) لأب تركماني الأصل، وأم مصرية تنتمي إلى قبيلة "بني عدي" العربية، ونشأ في قرية صغيرة من ريف مصر هي قرية "محلة نصر" بمحافظة البحيرة.
نشأته وطلبه للعلم
أرسله أبوه إلى الكتاب، حيث تلقي دروسه الأولي على يد شيخ القرية، وعندما شب الابن أرسله أبوه إلى "الجامع الأحمدي" – جامع السيد البدوي- طنطا، لقربة من بلدته؛ ليجود القرآن بعد أن حفظه، ويدرس شيئاً من علوم الفقه واللغة العربية، إلا أنه لم يستطع أن يتجاوب مع المقررات الدراسية أو نظم الدراسة بسبب صعوبة بعض المتون العلمية عليه، فقرر أن يترك الدراسة ويتجه إلى الزراعة، ولكن أباه أصر على تعليمه، فلما تأكد من إصرار أبيه على موقفه، هرب إلى بلدة قريبة فيها بعض أخوال أبيه، وهناك التقي بالشيخ الصوفي "درويش خضر"- خال أبيه- الذي كان له أكبر الأثر في تغيير مجري حياته.
استطاع الشيخ "درويش" أن يعيد الثقة إلي محمد عبده، بعد أن شرح له بأسلوب لطيف ما ستعصي عليه من تلك المتون المغلقة، فأزال طلاسم تلك المتون وتعقيداتها، وقربها إلى عقله بسهولة ويسر.
وعاد محمد عبده إلى الجامع الأحمدي، وقد أصبح أكثر ثقة بنفسه، وأكثر فهماً للدروس التي يتلقاها هناك بل لقد صار شيخاً ومعلماً لزملائه يشرح لهم ما غمض عليهم قبل موعد شرح الأستاذ.
انتقل محمد عبده من الجامع الأحمدي إلى الجامع الأزهر عام (1282ه - 1865م)، وقد كان الأزهر غاية كل متعلم وهدف كل دارس، فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة، وغير ذلك من العلوم الشرعية واللغوية.
جهاده الفكري الفلسفي
رأي محمد عبده توجه العديد من المثقفين لتبني آراء الفيلسوف الفرنسي "كونت" التي كانت تتوجه ل "هدم النظام اللاهوتي"، فواجه هذا الاقتحام التحديثي الأوروبي- الذي انتشر في كل مكان: في المدارس العصرية، وفي الصحافة والفنون ووضع المرأة الخ....- بتحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولي، واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه.
وكان بارعاً في مناظراته قوي الحجة سهل الأسلوب، ويتضح ذلك في مناقشته مع "هانوتو" قنصل فرنسا في مصر والتي تعد مظهراً يجسد وعي محمد عبده، وذلك من خلال رده على حديث أجرته صحيفة الأهرام سنه 1900، مع هذا القنصل؛ حيث كانت فرنسا تزعم أنها قدمت للبلدان الإسلامية التي استعمرتها شروطاً اجتماعية وثقافية أكثر تطوراً وقربتها من الحداثة، فيما اعتبرت الاستعمار البريطاني مصعداً للشبكات الدينية المحافظة.
وفي حديث القنصل الجملة الهامة التالية: "فكلما تقدمت أوربا تأخر الشرق، لأن الواقف يتأخر بقدر ما يسير الماشي وإن كل حكومة انفصلت عن الشرق وسارت على النظام الأوروبي علماً ومدنية فإنها نجحت، بل كل ما يود التنبيه إليه أن أوروبا تقدمت، إنما مرجع تقدمها محاربة السلطة الدينية مدة ثلاثة قرون وذلك لكي تفصلها عن السلطة المدنية". ويرد محمد عبده بذكاء على آراء السياسي الفرنسي مذكراً بأن فرنسا اعتبرت نفسها حامية للكاثوليك في الشرق، وملكة إنجلترا تلقب بحامية البروتستانت، فأين العلمانية؟
ويحدد محمد عبده العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية بالشكل التالي: "إن الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنه"، "إن الإسلام لم يجعل للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام أدني سلطة على العقائد وتقرير الأحكام وكل سلطة تناولها هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يجوز لواحد منها أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره" هذه نماذج من رؤيته الفلسفية، وقضيته الفكرية، ودفاعه عن الإسلام، ولننظر إلى جانب آخر من حياته وهو الحياة العلمية والدعوية.
حياته العلمية والدعوية
استمر "محمد عبده" يدرس في "الأزهر" اثني عشر عاماً، حتى نال شهادة العالمية سنه (1294ه = 1877م)، ثم انطلق ليبدأ رحلة كفاحه من أجل العلم والتنوير، فلم يكتف بالتدريس في الأزهر، وإنما درس في "دار العلوم" وفي "مدرسة الألسن"، كما اتصل بالحياة العامة. وكانت دروسه في الأزهر في المنطق والفلسفة والوحيد، وكان يدرس في دار العلوم مقدمة أبن خلدون، كما ألف كتاباً في علم الاجتماع والعمران.
وحينما تولي الخديوي "توفيق" العرش، تقلد "رياش باشا" رئاسة النظار، فاتجه إلى إصلاح "الوقائع المصري"، واختار الشيخ محمد عبده ليقوم بهذه المهمة، فضم "محمد عبده" إليه "سعد زغلول" و"إبراهيم الهلباوي"، والشيخ " محمد خليل"، وغيرهم، وأنشأ في الوقائع قسماً غير رسمي إلى جانب الأخبار الرسمية، فكانت تحرر فيه مقالات إصلاحية أدبية واجتماعية، وكان الشيخ " محمد عبده" هو محررها الأول. وظل الشيخ "محمد عبده" في هذا العمل نحو سنة ونصف السنة، استطاع خلالها أن يجعل "الوقائع" منبراً للدعوة إلى الإصلاح.
كما اتصل محمد عبده بعدد من الجرائد، فكان يكتب في "الأهرام" مقالات في الإصلاح الخلقي والاجتماعي، فتكتب مقالاً في "الكتابة والقلم"، وآخر في "المدبر الإنساني والمدبر العقلي والروحاني"، وثالثاً في "العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية"
الأمام محمد عبده مفتياً للديار المصرية
نستطيع أن ننظر للإمام محمد عبده من أكثر من جهة، فيمكن أن ننظر إليه باعتباره مصلحاً، ويمكن أن ننظر إليه باعتباره مقاوماً للاستعمار، وغير ذلك إلا أن أفضل ما نلقبه به هو مفتي الديار المصري؛ إذ يعني ذلك كونه حجة ومرجعية في ربط الدين بالحياة، وهو ما توج مسيرته الطاهرة.
بعد وفاة الخديوي توفيق سنه (1310ه - 1892م)، ولي الخديوي عباس، الذي كان متحمساً لمناهضة الاحتلال، سعي الشيخ "محمد عبده" إلى توثيق صلته به، واستطاع إقناعه بخطته الإصلاحية التي تقوم على إصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وصدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ "حسونة النواوي"، وكان الشيخ محمد عبده عضواً فيه، وهكذا أتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لتحقيق حلمه بإصلاح الأزهر، وهو الحلم الذي تمناه منذ أن وطئت قدماه ساحته لأول مرة.
وفي عام (1317ه 1899م) تم تعيينه مفتياً للبلاد، وجاء الأمر العالي من المعية السنية بتاريخ 24 محرم 1317 الموافق 3 يونيه 1899 نمرة 2 سايرة صورته.
فضيلة حضرة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بناء على ما هو معهود في حضرتكم من العالمية وكمال الدراية قد وجهنا لعهدتكم وظيفة إفتاء الديار المصرية وأصدرنا أمرنا هذا لفضيلتكم للمعلومية والقيام بمهام هذه الوظيفة عطو فتلو الباشا رئيس مجلس النظار بذلك.
الختم
عباس حلمي
ونص هذا الأمر العالي موجود في المجلد الثاني من مجلدات دار الإفتاء المصرية، وهو المجلد الأول من فتاوى الشيخ محمد عبده رحمه الله، وكان أول تسجيل للشيخ في هذا الدفتر يوم 2 صفر 1317ه- أي بعد أسبوع من صدور الأمر العالي- وبالدفتر 487 فتوى أخرها في 23 صفر سنه 1320 ه، ويبدأ الدفتر الثالث بالنسبة لدار الإفتاء، وهو الثاني بالنسبة للشيخ محمد عبده من 27 صفر 1320، وفي صفحة 160 من الدفتر تنتهي فتاوى الشيخ محمد عبده وعددها في هذا الدفتر 457 وآخرها في تاريخ 4 ربيع الثاني سنه 1323ه وبذلك يكون مجموع فتاوى الشيخ 944 مسجلة في 360 صفحة تقريباً، في المجلد الثاني والثالث من مجلدات دار الإفتاء، ثم أكمل الدفتر الثالث الشيخ بكري الصدفي بعد توليه منصب مفتي الديار المصرية.
وفاته وكانت علاقته بالخديوي عباس يشوبها شيء من الفتور، الذي ظل يزداد على مر الأيام خاصة بعدما اعترض على ما أراده الخديوي من استبدال أرض من الأوقاف بأخرى له إلا إذا دفع الخديوي للوقف عشرين ألف فرقاً بين الصفقتين.
وتحول الموقف إلى عداء سافر من الخديوي، فبدأت المؤامرات والدسائس تحاك ضد الإمام الشيخ، وبدأت الصحف تشن هجوماً قاسياً عليه لتحقيره والنيل منه، ولجأ خصومه إلى العديد من الطرق الرخيصة والأساليب المبتذلة لتجريحه وتشويه صورته أمام العامة؛ حتى اضطر إلى الاستقالة من الأزهر في سنه (1323ه - 1905م)
وأثر ذلك شعر الشيخ بالمرض، واشتدت عليه وطأة المرض، الذي تبين أنه السرطان، وما لبث أن توفي بالإسكندرية في (8 جمادي الأولي 1323ه- 11 من يوليو 1905م) عن عمر بلغ ستة وخمسين عاماً رحمة الله تعالي، ورزقنا الاستفادة من علمه وفكره وجهاده آمين. ******************* هوامش [1] حديث شريف أخرجه البخاري في صحيحة، ج1 ص 37، وابن حبان في صحيحة، ج1ذ ص 101.