عندما أُعفي مايك والتز بشكل مفاجئ من مهامه كمستشار للأمن القومي للرئيس دونالد ترامب، وأُعيد تعيينه سفيرًا للولايات المتحدة لدى الأممالمتحدة في الأول من مايو، سلّط ذلك الضوء على التجاذبات الحادة بين من يُسمّون بالقوميين والانعزاليين في الدائرة المقربة من ترامب. وورد أن الصراع بلغ ذروته بشأن قضية إيران، حيث جادل مستشارو كلا الجانبين بأن قناعاتهم في السياسة الخارجية أقرب إلى أجندة الرئيس "أمريكا أولاً". ويبدو أن القوميين كانوا ينصحون ترامب بالانخراط بقوة في مفاوضات مباشرة مع النظام في طهران، بهدف القضاء على قدراته النووية، أما الانعزاليون، ففضّلوا تجنب الانخراط وترك دول الشرق الأوسط تُدبّر أمرها بنفسها. فعندما يتعلق الأمر بترامب - الذي أمضى الأسبوع الماضي، في قمة أعمال في (المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات)، - فأي فلسفة تصف سياسته الخارجية على أفضل وجه؟
في ولايته الأولى، أصبح أول رئيس في القرن الحادي والعشرين يُبقي الولاياتالمتحدة بمنأى عن الصراعات الخارجية الجديدة، هل كان ذلك لأنه اختار عزل واشنطن عن شرور العالم، أم أنه كان نتيجة رؤية عالمية قائمة على فكرة أن استثنائية أمريكا بحد ذاتها تُبرز قوة ساحقة، مما يجعل العمل العسكري المباشر غير مستحسن أو غير ضروري؟ في الواقع، الإجابة هي لا هذا ولا ذاك. ترامب والسلام من خلال القوة
إن المقارنة الأنسب لنظرة ترامب لدور أمريكا في العالم هي مع فلسفة سلفه الرئيس الأمريكي الراحل "رونالد ريغان" في السلام من خلال القوة، فمن خلال بناء جيش قوي، مع الحفاظ على تهديد ما يُسمى بمبادرة الدفاع الاستراتيجي "حرب النجوم" في وجه الاتحاد السوفيتي آنذاك، تمكن "ريغان" من الفوز في الحرب الباردة دون إطلاق رصاصة واحدة (على الرغم من انهيار الاتحاد السوفيتي والستار الحديدي لأوروبا الشرقية في نهاية المطاف بعد فترة وجيزة من مغادرته منصبه). وبالمثل، حتى في ظلّ جنون خفض التكاليف الذي يُمارسه وزير الدفاع الأمريكي والتزامه بتقليص الميزانية الفيدرالية، يدعو ترامب إلى زيادة كبيرة - بنسبة 13% - في ميزانية الدفاع. في الوقت نفسه، وكما يتّضح من اتفاقه مع أوكرانيا بشأن المعادن الأرضية النادرة، وجولته في الشرق الأوسط، إلى قطر والإمارات العربية المتحدة، يتفرّد ترامب بتركيزه على الدبلوماسية من خلال التجارة، بصفته أول رجل أعمال يفوز بالرئاسة، دأب "ترامب" على استخدام المبادئ الواردة في كتابه "فنّ الصفقات" لإبرام صفقات دولية ضخمة تُرسّخ روابط متينة مع حلفائنا - وأحيانًا خصومنا. جزءٌ لا يتجزأ من أسلوب إبرام الصفقات الذي يحدّده ترامب في كتابه الرائد هو عدم السعي إلى اتفاقيات محصلتها صفر، يفوز فيها طرف ويخسر الآخر، بل إبرام صفقات محصلتها زائدة تُفيد الطرفين، كما حدث في اتفاقه مع أوكرانيا. ويستند هذا إلى مبدأ أنّ أيّ صفقة تُضعف أحد الطرفين تُصبح في النهاية غير مستدامة، الدليل الأبرز على ذلك هو "معاهدة فرساي"، التي وُقِّعت في ختام الحرب العالمية الأولى، استشاط الألمان غضبًا، معتقدين أنها صفقة ظالمة، وأدى الغضب الواسع النطاق الناتج عن ذلك إلى صعود أدولف هتلر، الذي أدى وعده بالانتقام لمعاهدة فرساي إلى نشوب الحرب العالمية الثانية ومقتل الملايين حول العالم. سعى ترامب إلى جذب تريليونات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية إلى الولاياتالمتحدة، وقد حقق نجاحًا باهرًا حتى الآن، هذا هو جوهر رحلته لزيارة حلفائه في الشرق الأوسط، عندما يُعزز الاقتصاد الأمريكي بضخّات هائلة من رأس المال، يُصبح الأمر أشبه بلعبة مربحة، حيث يزدهر كلا الجانبين. لذا، ربما يُمكننا وصف سياسة ترامب الخارجية بأنها "السلام من خلال التجارة". ومن مبادئ رؤية ترامب العالمية الأخرى التعامل مع خصومه، كما فعل (ريتشارد نيكسون مع الصين، وريغان مع الرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف)، يتفاوض ترامب بنشاط مع إيران، وقد فعل ذلك على نحوٍ شهير في ولايته الأولى مع "رجل الصواريخ الصغير" كيم جونغ أون، زعيم كوريا الشمالية. وبينما يخشى الكثيرون مما يصفه بعلاقة ودية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، يحرص ترامب على عدم استفزازه، فبينما يعاني اقتصادها من إفراغ المصانع وفقدان آلاف الوظائف في اقتصادها الصناعي والتصديري، يستطيع ترامب، كما نصح البعض علنًا، توجيه ضربة قاضية للصين بالإصرار على فرض رسوم جمركية ضخمة قد تؤدي إلى رد عسكري. وبدلاً من ذلك، وحسب معظم الروايات، استخدم التهديد بمثل هذه الرسوم لإبرام صفقة رابحة تعود بالنفع على كلا البلدين.. واعتقد أنه نجح في ذلك.. هل تذكرون المثل القديم عن إبقاء الأصدقاء قريبين والأعداء أقرب؟
ربما من السهل تعريف بعض الرؤساء الأمريكيين عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، كان "بايدن" متشددًا في الحرب، ومؤيدًا للتدخل، ودائمًا ما دعم التدخل الأمريكي في النزاعات الخارجية، كما حدث عندما قال إنه سيواصل دعم أوكرانيا "مهما طال الزمن". تجاهل حقيقة أن الحرب تحولت إلى مواجهة عسكرية، بينما يُقتل الآلاف أسبوعيًا، كان هذا هو الحال أيضًا مع الرئيس "جورج دبليو بوش"، الذي بدأ حروبًا في أفغانستان والعراق بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وواصل القتال طوال ما تبقى من رئاسته التي استمرت ثماني سنوات، مما أثار استياء معظم الأمريكيين. كان الرئيسان "باراك أوباما وبيل كلينتون" ممن يُمكننا وصفهم بالصقور الحذرين، إذ اقتصرت مشاركتهم المباشرة في الحروب على الضربات التي لم تُعرّض الأمريكيين للخطر بشكل مباشر. ولكن عندما يتعلق الأمر بترامب، صنفت رؤيته للعالم على أنها السلام من خلال القوة، أو السلام من خلال التجارة، أو السلام من خلال البراغماتية، فإنه يُرسي فلسفةً مُركّبة تختلف عن فلسفة أسلافه الكثيرين. إذا نجحت صفقاته التجارية الضخمة، ومفاوضاته المُستمرة مع الحلفاء والخصوم على حد سواء، ورؤيته الواقعية للصراع العالمي كما حدث في إدارته الأولى، فمن المرجح أن يُعيد الأمريكيون شراء ما يُروّج له.