ترتكز عقيدة الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب على مفهوم الصفقة فى التعامل مع قضايا السياسة الخارجية, وأن حجم انخراط أمريكا فى قضايا العالم ومنطقة الشرق الأوسط تحديدا سوف يرتبط بمقدار ما تحققه من منافع اقتصادية للولايات المتحدة, وقد برزت تلك العقيدة فى تصريحاته ومواقفه إبان الحملة الانتخابية وبعد إعلان فوزه مع إعادة النظر فى التعاون مع حلف الناتو والدفاع عن الدول الصديقة مقابل دفع الأموال, والتوجه لإلغاء صفقة البرنامج النووى الإيرانى ومراجعة الانفتاح على كوبا والانسحاب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادى, إضافة إلى رفض العولمة التى أدت لنزوح رءوس الأموال إلى الخارج وما ترتب عليه من ارتفاع البطالة, وقد اعتبر ترامب أن هذه الشراكات شكلت عبئا على الولاياتالمتحدة ولم تحقق لها المزايا المرجوة, وأنه سيسعى إلى البحث عن صفقات أخرى بشروط أفضل, وهو ما ينعكس على توجهات السياسة الخارجية الأمريكية والميل إلى الاتجاه الانعزالى وفقا لمبدأ أمريكا أولا. والواقع أن عقيدة ترامب القائمة على مفهوم الصفقة هى مزيج ما بين التوجهين الأساسيين فى السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية, وهما التوجه الانعزالى والانكفاء على بناء الأمة الأمريكية ومصادر قوتها, والتوجه الانفتاحى والانخراط فى قضايا ومشكلات العالم, والتدخل فيها عبر الآليات الصلبة مثل القوة العسكرية والعقوبات والضغوط السياسية, أو عبر الآليات الناعمة كالدبلوماسية والمفاوضات والمساعدات, وأحيانا المزج بينهما فى إطار سياسة العصا والجزرة. وقد فرضت ظروف الحرب الباردة وتبوء أمريكا رأس النظام الدولى, والذى تكرس بعد انهيار الاتحاد السوفيتى, دورا أمريكا فى العالم عبر الدخول فى شراكات دفاعية مع الحلفاء كاليابان وكوريا الجنوبية وأوروبا ودول الخليج, كما لعبت دورا مثاليا عبر مفهوم الترويج للديمقراطية فى العالم الثالث, وزاد بشكل كبير عقب احداث 11 سبتمبر عام 2001 انطلاقا من أن الاستبداد والقمع قد أوجد البيئة التى أدت لنشوء الإرهاب, وأن تحقيق الديمقراطية والإصلاح السياسى ودعم الحريات هو السبيل لمكافحة التطرف والإرهاب. وقد شكلت نتائج السياسة التدخلية وتداعياتها مصدرا لتغير السياسة الخارجية الأمريكية, فالتوجه التدخلى العسكرى لإدارة بوش الابن والمحافظين الجدد دفعت إدارة اوباما إلى بلورة عقيدته فى السياسة الخارجية وهى عدم الانخراط المباشر فى الصراعات والأزمات بقوات مسلحة أمريكية, نظرا للخسائر الكبيرة المالية والبشرية التى سببتها حربا أفغانستان والعراق, واللجوء إلى الحرب بالوكالة ودعم أطراف أخرى كما حدث فى الأزمة السورية, وغلبت المثالية على إدارة أوباما وسعى للترويج للديمقراطية ودعم الإصلاح السياسى والذى برز فى ثورات الربيع العربى, كذلك الانفتاح على الخصوم كما فعل مع إيران وإبرام صفقة البرنامج النووى وكذلك الانفتاح المحكوم مع كوبا وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها. لكن عقيدة أوباما وسياساته الخارجية وتداعياتها السلبية وفشلها فى الكثير من الأزمات وتصاعد خطر الإرهاب, شكل دافعا لترامب لبلورة عقيدته وإحداث تغيير فى السياسة الخارجية يرتكز على حسابات المنفعة والخسارة, والاتجاه نحو الانعزالية, مع التدخل الخارجى المشروط بمقدار المنافع التى يحققها للولايات المتحدة. لكن عقيدة ترامب المرتكزة على مفهوم الصفقة تواجه العديد من التحديات, أولها: من الصعب على الولاياتالمتحدة فك اشتباكها مع العالم الخارجى خاصة منطقة الشرق الأوسط حيث إنها مرتبطة بمصالح إستراتيجية وعسكرية واقتصادية وأمنية, تتمثل فى ضمان وصول النفط وبأسعار معقولة وحماية أمن إسرائيل والتعاون مع الدول المعتدلة والصديقة لمواجهة خطر الإرهاب, وهذه المصالح تتسم بالتعقيد ولا يمكن التعامل معها من منطق الصفقة وحسابات المنافع والخسائر المباشرة. فالعلاقات الأمريكية مع الحلفاء ترتكز على مبدأ تبادل المصالح الإستراتيجية المشتركة, ومن الصعب الانسحاب من الناتو أو تفكيك المظلة الأمنية الأمريكية لأوروبا وكذلك دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية, وهذه المصالح تفرض على الولاياتالمتحدة الاستمرار فى ممارسة هذا الدور فى ظل تصاعد أدوار روسيا والصين فى النظام الدولى اقتصاديا وسياسيا, فى مقابل تراجع القوة الاقتصادية الأمريكية وتقلص نفوذها السياسى. وثانيها: رغم أن السمات الشخصية والخلفية السياسية والاقتصادية لترامب سوف يكون لها تأثير فى تحديد ملامح السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم, وهى خلفية رجل الأعمال الناجح الذى يتعامل بمنطق المكسب والخسارة ويفتقد فى الوقت نفسه للخبرة السياسية, فإن عقيدة السياسة الخارجية فى عهد إدارة ترامب سوف يحددها بشكل أكبر تركيبة وتوجهات الفريق المعاون له, إضافة لتفاعل وتوافق المؤسسات المختلفة, مثل مجلس الأمن القومى ووزارتى الدفاع والخارجية إلى جانب البيت الأبيض والكونجرس, حول تلك السياسة والذى سيحكمه بشكل أساسى المصالح الأمريكية الإستراتيجية. عقيدة ترامب القائمة على مفهوم الصفقة سوف تكون مزيجا من الانعزال والانخراط والتدخل المحكوم فى العالم وفقا لحجم المنافع المادية المباشرة, مع غلبة الواقعية وإعلاء المصالح على القيم وتراجع الدور المثالى لأمريكا فى نشر الديمقراطية والحرية, وهو ما ستكون له تداعيات عديدة ويفضى إلى تحولات مهمة فى السياسة الخارجية الأمريكية. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد سيد أحمد