كرست المناظرة الثانية بين المرشح الجمهورى دونالد ترامب والمرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون حجم الفجوة المتزايدة بينهما لصالح كلينتون, التى تشير كل المعطيات إلى أنها قد حسمت السباق مبكرا وبصورة غير مسبوقة فى تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية, وهذا يعود لمجموعة من العوامل. أولها: للمرة الأولى يشهد سباق الرئاسة مرشحين لا يعدان الخيار المثالى بالنسبة للمواطن الأمريكى, والذى يجد نفسه يختار بين خيارين كلاهما سيئ, فكلينتون تمثل الخيار السيئ وفى ذات الوقت يمثل ترامب الخيار الأسوأ, ومن ثم سوف يدفع هذا العديد من الأمريكيين إلى التصويت لكلينتون ليس حبا فيها أو اقتناعا بها وإنما احتجاج ورفض لخيار ترامب, الذى أثبت بتصريحاته المثيرة ومواقفه الهوجاء أنه سوف يقود أمريكا لمسار مجهول إذا ما وصل للرئاسة. ثانيا: أن تزايد فرص «كلينتون» ليس لقوتها وبرنامجها المميز ولإنجازاتها العديدة وإنما بالأساس لضعف منافسها الذى يعتمد بشكل أساسى على الاحتجاج والرفض لسياسات أوباما والديمقراطيين دون أن يقدم بديلاً ملموساً ومقنعاً للناخب الأمريكى سواء فى المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو فيما يتعلق بالقضايا الداخلية أو الخارجية, وفى الوقت الذى قدمت فيه كلينتون رؤية شبه واضحة بالنسبة للقضايا الداخلية المتعلقة بانعاش الاقتصاد والنظام الصحى والضريبى, والتعامل مع قضايا مواجهة تنظيم «داعش» والأزمة السورية, أخفق ترامب فى تقديم بدائل عملية محددة, وهذا يعود إلى افتقاده لمستشارين سياسيين قادرين على صياغة برنامجه وتوجهاته. ثالثا: أخفق ترامب فى توظيف المناظرتين الأولى والثانية فى تقليل الفجوة بينه وبين كلينتون, واتسم أداؤه بالرعونة بينما اتسمت كلينتون بالثبات, ورغم أن المناظرة الثانية كانت من أسوأ المناظرات، حيث خصص معظمها للفضائح الأخلاقية والانتهاكات القانونية والتهرب الضريبى, وبرغم أن المناظرات لا تؤثر بشكل جوهرى على نتائج الانتخابات, فإنها أسهمت بشكل كبير فى استقطاب نسبة كبيرة من الأمريكيين المترددين لمصلحة كلينتون, أظهرته التقدم المرتفع لمصلحتها وفقا لاستطلاعات الرأى والتى تجاوزت النقاط العشر. رابعا: فى الوقت الذى نجحت فيه كلينتون فى مخاطبة كل الفئات الأمريكية بتأكيد مفهوم الوحدة من خلال التنوع وسياسة البوتقة التى ينصهر فيها الجميع, استعدى ترامب قطاعات كبيرة من الشعب الأمريكى, فبعد تصريحاته ومواقفه العدائية ضد الأقليات من أصول لاتينية وسوداء وتجاه العرب والمسلمين ودعوته لمنع دخولهم أمريكا وفرض الرقابة على أحيائهم, خسر المرأة أيضا بعد التسريب المسيء للنساء, وأصبح لا يمثل سوى الأمريكيين من أصول أوروبية وإثارة النزعة القومية, ورغم أن ترامب يمثل ظاهرة ويعبر عن شريحة واسعة من المجتمع الأمريكى الذى يريد أمريكا أولا, فإن طبيعة المجتمع وتركيبته المتنوعة تقف عائقا أمام توجهاته ومواقفه. خامسا: اتسم المعسكر الديمقراطى بالتوحد والاصطفاف خلف كلينتون, فى حين انقسم الحزب الجمهورى بشأن ترامب وعبر عدد من رموزه مثل المرشح الرئاسى السابق جون ماكين ووزيرة الخارجية السابقة كوندليزا رايس, ورئيس مجلس النواب بول راين عن تخليهما صراحة عنه بل ودعوته للانسحاب من السباق, وهذا الانقسام يعكس حدة الأزمة الهيكلية التى يعانيها الحزب الجمهورى منذ عام 2008 بعد سقوط المحافظين الجدد وعدم قدرة الحزب على إجراءات إصلاحات جوهرية سواء فى تركيبته أو سياساته, وهو ما انعكس فى سقوط معظم مرشحيه مثل جيب بوش وتيد كروز, وصعود ترامب الذى أصبح بمنزلة الخيار الاضطرارى للحزب, لكن وجود ترامب من شأنه أن يمرر خيار كلينتون كأول امرأة رئيسة للولايات المتحدة, بعد أن تولى أوباما كأول رئيس من أصول سوداء, ولذلك يمكن القول إن كلينتون قد حسمت السباق مبكرا ما لم تحدث مفاجآت كبرى وهو أمر مستبعد. وبالنسبة للعالم العربى قد يكون خيار «كلينتون» أكثر عقلانية من خيار ترامب الذى يتسم بالتقلب الحاد فى المواقف, ومواقفه العدائية من العرب والمسلمين, كما أن سياسة كلينتون تجاه المنطقة من المتوقع أن تكون امتداداً واستمراراً لسياسات أوباما وعقيدته التى تقوم على عدم الانخراط المباشرة فى صراعات المنطقة وأزماتها, ومن المستبعد أن نشهد تغيرات جذرية فى تلك السياسة خاصة فيما يتعلق بدعم إسرائيل والحفاظ على علاقة قوية مع الدول الحليفة, فهناك محددات ومصالح تحكم السياسة الأمريكية تجاه المنطقة وتتمثل فى دعم إسرائيل ومحاربة الإرهاب والحفاظ على إمدادات النفط بأسعار معقولة وكلها تشكل استمرارية لتلك السياسة بينما سيكون التغيير فقط فى الآليات. لكن الأهم ألا تظل الدول العربية فى موقف رد الفعل بانتظار سياسات الإدارة الجديدة, وعدم المراهنة عليها بغض النظر عن طبيعتها, وإنما بلورة سياسات عربية واضحة ومحددة تعظم المصالح العربية وتقوم على التوازن والاستقلالية مع الولاياتالمتحدة, فخبرة الإدارات الأمريكية المتعاقبة سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية لم تكن دائما فى خدمة القضايا العربية أو دعم الاستقرار فى الشرق الأوسط, إنما كانت تعبيرا عن مصالح أمريكا بالأساس, وأسهمت فى زيادة التوتر وعدم الاستقرار وتصاعد خطر الإرهاب وهو ما جعل المنطقة العربية الساحة الأكثر التهابا وسخونة فى العالم. لمزيد من مقالات د.أحمد سيد أحمد