وحتى تتبلور الفكرة لدي السادة القراء علي ضوء ما طرحناه في آخر مقال بالأمس عن سبل إنقاذ مصر من الوضع المتردي الراهن الذي وصلت إليه، فأننا ندعو السادة والسيدات الذين تابعوا معركة المنظمات الممولة من الخارج، والمأساة التي انتهت بها، أن يتوقفوا أمام الظروف التي تفجرت فيها تلك المعركة، ومن هم أطرافها والي أين وصلت تداعياتها، وأوضاع الساحة العامة في ظلها.
وأهم ما توصلنا إليه عقب معركة التمويل الأجنبي للمنظمات أن «المتأمركين» و«العسكري» باتوا إيد واحدة، وان كان منهما يستغل قضية التمويل في محاولات الكيد للآخر، الملفت للانتباه هنا أن معركة التمويل، تفجرت علي أثر تقرير وضعته لجنة تقصي حقائق شكلتها وزارة العدل من أجل رصد التمويل الأجنبي المتدفق علي مصر, وهذا التقرير خلص إلي تحديد ثلاثمائة جهة ومنظمة وحركة وناشط ووسيلة إعلامية وجمعية تتلقي تمويلاً غير شرعي من الخارج.
وبناء علي ما توصلت إليه لجنة تقصي الحقائق المشار إليها، تم انتداب قاضيي تحقيق ليقوما بعملهما حول هذا التقرير الذي توصل لمعلومات في غاية الخطورة تشير إلي أن المنظمات والشخصيات المتهمة ارتكبت جرائم ترقي لمصاف التجسس.
والملاحظ أنه خلال فترة إعداد التقرير، ثم إخضاع بعض الذين وردت أسماءهم فيه للتحقيق، وخلال تلك الفترة التي أخضعوا فيها للتحقيق، كانت الساحة المصرية تموج بالتظاهرات، والتي قد بدأت بأحداث «ماسبيرو»، وامتدت لأحداث شارع محمد محمود، ثم أحداث مجلس الوزراء، ثم الدعوة لإضراب أو عصيان يوم 25يناير الماضي الفاشل.
وكانت تقف خلف كل تلك التظاهرات عناصر ليبرالية وغير ليبرالية معروفة بالاسم تقود حركات وجمعيات، وتتعاطف معها وسائل إعلامية ممولة من الخارج، وتلك العناصر علي علاقة وثيقة بدوائر أمريكية وتتلقي تمويلاً غير شرعي منها ومن غيرها، وهذا التمويل تعلمه جيدا الدوائر المصرية.
ولأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو الآخر تربطه شراكة إستراتيجية مع واشنطن ورثها عن نظام مبارك، ويتلقي أيضا تمويلا من واشنطن تحت مسميات مختلفة، ولأن مصلحته في ترك تلك الجماعات الليبرالية الممولة من واشنطن لأهداف إستراتيجية تجمع الجانبين.
ومن بين تلك الأهداف التي تجمع بين العسكري وتلك الجماعات الممولة من الخارج و«المتأمركة»، الحفاظ علي كل من اتفاقات الشراكة الإستراتيجية مع واشنطن، و«كامب ديفيد» وما خلفته من اتفاقات اقتصادية أُخري مع مصر وتطبيع بمجالات الزراعة والبترول والغاز و«كويز صناعة الأقطان».
لأجل ذلك قام اللواء مراد موافي مدير المخابرات العامة باستدعاء ناشطين بتلك الجماعات الليبرالية وغير الليبرالية، واستدعاء آخرين ينتمون لمنظمات مجتمع مدني، ومن تم استدعاءهم معروفة علاقاتهم بواشنطن ودول التمويل غير الشرعي وتحدث أمامهم عن المخاطر المحدقة بمصر، والتي تحتاج دعم الجيش والمجلس العسكري ليعبر بمصر إلي بر الآمان.
وشدد موافي علي أن المخابرات المصرية تحترم منظمات المجتمع المدني، وتصر علي تحقيق مطالب الثورة، وهي مقولة باتت أكليشيه يقولونها، وعلي أرض التطبيق العملي لا نجد معطياتها، لكن لأن من استدعاهم اللواء موافي من الناشطين لديهم أجندة خارجية، فسروا كلامه الذي كان فيه تحذيرات لهم، علي شاكلة أننا نعلم أنكم تتقاضون تمويلاً غير شرعيا لكننا نترككم، لكن ثمة خطوط حمراء يتوجب الالتزام بها، لكن تلك الجماعات والعناصر المستدعاة فسرت كلام موافي علي أساس أن جهاز المخابرات يشعر بالضعف ويحتاج لدعمها، وبالتالي ضربوا بكلامه عرض الحائط.
وصعدوا من تظاهراتهم واحتجاجاتهم ومحاولاتهم تارة لاقتحام وزارة الداخلية وأخري لاقتحام مجلس الوزراء، وما تخلل ذلك من تحرك «بلطجية» دفعت بهم فلول النظام المنهار وسط الثوار، حيث مارس البلطجية القتل والتخريب وحرق المنشآت العامة تارة..وتارة أخري حاولوا بدعم من الجماعات المصرية المسيحية بالخارج إشعال الفتنة الطائفية في مصر.
وكانت النتيجة أن اختلط الحابل بالنابل ونقلت إلينا الفضائيات وقائع تشير لجرائم حدثت خلال التظاهرات عندما رفعت عناصر تنتمي لتلك الجماعات المدعومة أمريكيا وصهيونيا، رفعت تلك العناصر أحذيتها بوجه رجال قواتنا المسلحة الذين كانوا يقومون بحماية وتأمين منشآت عامة، وكان من بين تلك العناصر من يسب جنرالات وقادة في الجيش المصري أثناء إشرافهم علي عمليات التأمين بأحط الألفاظ، ومن يحاول اقتحام وزارة الداخلية تارة ومجلس الوزراء أو مجلس الشعب تارة أخري، ومن يقذف قوات الأمن بالطوب والحجارة.
والجدير بالذكر أن السفارة الأمريكية والجامعة الأمريكية كانت إلي جوار تلك العناصر والأسهل لها، بيد أن تلك العناصر لم تقترب منها علي الإطلاق، وهذا أمر ملفت للانتباه ويؤكد ما سبق وذكرناه حول علاقات تربك ما بين رموز من افتعلوا تلك الأحداث وبين واشنطن ودوائر خارجية أخري.
وللأسف بدلا من أن تصدر التعليمات لعناصر الأمن باحتواء هذا الشغب بشكل سلمي، والقبض علي مثيريه ومن يتلفون المنشآت العامة، صدرت التعليمات إليهم بضربهم بالنار وتفريقهم وفض تظاهراتهم بالقوة خشية أن يثور الرأي العام العالمي ضد مصر حال اعتقالهم، ومن هنا سقط من سقط أمام «ماسبيرو»، ومحمد محمود ومجلس الوزراء ووزارة الداخلية.
هذا هو المناخ الذي استبق تفجر أزمة منظمات التمويل، وعندما فشل المجلس العسكري في التعامل مع تلك العناصر «المتأمركة»، أعطي الضوء الأخضر بالبدء في تلك التحقيقات المتعلقة بالتمويل، وانطلقت لجان المحققين لتداهم مقرات المنظمات، وفور فشل إضراب 25يناير، ووجدنا قاضيي التحقيق يعلنان أنهما يستعدان لإحالة الدفعة الأولي من المتهمين بتلقي تمويل غير شرعي للمحاكمة.
وعندما تمت الإحالة عقدا قاضيا التحقيق مؤتمراً صحفياً، وما قالوه في المؤتمر بحق المنظمات الأمريكية والأجنبية والمصرية المتهمة يصل لاتهامها بالخيانة وتهديد أمن مصر القومي، لكن عندما تم تقديم المتهمين للمحاكمة فاجأتنا النيابة بأن المتهمين سيحاكمون بتهمة العمل بشكل غير شرعي في مصر وهي تهمة عقوبتها الغرامة.
وفي وقت استشاط فيه الغرب الأوروبي الأمريكي غيظا ً جراء تلك الاتهامات ووجدنا البيت الأبيض يوفد برجاله تباعا إلي مصر من أجل إطلاق 19أمريكيا متهمين في تلك القضية، كانت مصر تواجه حصارا اقتصاديا إقليميا ودوليا غير معلن، وأمريكا تحجب قطع الغيار عن طائراتها منذ عدة شهور، فما الذي حدث، وكُنا نستمع إلي تصريحات عنترية من قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تلك التصريحات تحولت إلي دخان في الهواء عندما رضخوا لواشنطن وخذلونا وأهانوا القضاء وسمحوا للأمريكان بالسفر، وكانت حججهم ومبرراتهم التي مللناها جاهزة، وظهر من يبرر فعلتهم السيئة للأسف.
ومن جهة العناصر «المتأمركة» والجماعات التي أشبعتنا أحداثا دموية وتظاهرات، وجدناها مع تظاهراتها وتصعيدها الذي كان يحدث ليل نهار تتوقف ووجدنا تلك الاحتجاجات تنتهي تماما، لأن الأمر بات يتعلق بمصادر تمويلها وتمويل رموزها غير الشرعي، ووجدنا غالبية أجهزة الإعلام التي تصدر علي هيئة صحف وفضائيات جراء التمويل الأجنبي توقف حملاتها التحريضية، ولا تتناول كارثة السماح للأمريكان بالسفر إلا علي سبيل الشماتة بالمجلس العسكري، أو ذر الرماد في العيون، وبادر أحد أصحاب فضائية تمول من الخارج ببيعها خشية أن تطوله المسألة.
وعندما حدثت كارثة تسفير رجال وسيدات منظمات التمويل الأمريكية المتهمين إلي خارج مصر، لفت انتباهنا الصمت التام من قبل «المجلس العسكري»، وتبادلت السلطات الحاكمة الاتهامات بتسفير الأمريكان، بينما التزمت الحركات والجماعات الليبرالية وغير الليبرالية والتي كانت تصدعنا ليل نهار بالتظاهرات بداع وبدون داع التزمت تلك الجماعات الصمت التام.
في وقت كان الوطن كله يتمني خروج الجماهير ومحاصرتها السفارة الأمريكية جراء هذا العمل الخسيس من قبل واشنطن وضغوطها وتدخلها في شئون القضاء المصري، وابتزازها لحكام المرحلة الانتقالية في بلادنا، لكن لم يتحرك أحد ممن أرهقونا طغياناً وتظاهراً وزايدوا علينا وعلي أنفسهم، إنما التزموا الصمت ولم يوجهوا أية انتقادات حقيقية لواشنطن بقدر شماتتهم في العسكري.
صمتوا جميعا وأكلوا "سد حنك"، واكتفوا ببيانات "ردح" يكيدون من خلالها للمجلس العسكري، وبيانات تخوين وتفريط، وللأسف كان الحال بالفعل من بعضه، لكون أنهم باتوا مثلهم مثل «المجلس العسكري» في عيون الشعب المصري، وفي عيون ثوار مصر الحقيقيين الذين سيتحركون قريبا ً ولن يرحموا أحداً ممن كادوا لهم ولثورتهم.
وربما الذي أنقذ مصر من فضيحة تسفير الأمريكان، التظاهرات التي نظمها الجمعة 9مارس جماعات الإعلامي توفيق عكاشة ومن يدعوهم مطالبين بطرد السفيرة الأمريكية بالقاهرة، بغض النظر عن رأينا في توفيق وسلوكياته إلا أن ما فعله خطوة جريئة تحسب له ومن معه.. أما الإخوان فاكتفوا أيضا مثل الجماعات المشار إليها ببيانات ينفون فيها تهمة المشاركة في تسفير الأمريكيين لذر الرماد في العيون ولآذوا بعد صدور تلك البيانات بالصمت، وعندما دعوا رئيس الوزراء إلي البرلمان لمناقشة ما حدث بالبرلمان تعمدوا تحديد موعد الدعوة التي لم يحين وقتها حتى الآن بعد برودة الأحداث.
وعلي كل الفارق ما بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتلك الجماعات والمنظمات والأفراد، أن المجلس يمثل أهم كيان في مصر مهمته الدفاع عنها وحمايتها، ولدي المجلس أجهزة تري الصورة كاملة وتستطيع فرملة نفسها وفرملة المجلس حال الخطر بحكم المسئولية، أما تلك الجماعات والأفراد التي تتلقي تمويلاً أمريكيا وغير أمريكي، يتم التعامل معها عبر الدوائر الممولة بصورة شخصية وفردية وبالتالي هي معرضة لتكون لقمة سائغة لسيطرة أجهزة الاستخبارات الأجنبية عليها وعلي عناصرها.
وربما يقول لنا السادة القراء طيب وبعدين ؟.. نجيبهم بالعامية: "ولا قبلين ولا بعدين"، الأمر جد وخطير والثورة تحتاج لرجال يوالون مصر علي أرضية معاداة مخططات الحلف الصهيوني الأمريكي، هؤلاء الرجال يوحدون الصفوف، وعند تسليم المجلس العسكري للحكم يضغطون علي الحكام الجدد من أجل إنهاء التبعية للولايات المتحدة، ووضع نهاية لاتفاقية «كامب ديفيد» والاستجابة التامة وبدون نقاش لكل مطالب الثورة والقصاص للشهداء, لكون أنه غير مقبول أن تظل اتفاقية «كامب ديفيد» قيداً علي وطننا للآبد".
أما الجماعات والأفراد ووسائل الإعلام الممولة من الخارج فلابد أن يتم اجتثاثها ومحاكمة عناصرها، وإيجاد آلية تمويل وطنية لتلك المنظمات والجماعات، وإخضاع العناصر التي تروح ذهابا وإيابا لواشنطن للتحقيق من أجل حماية الأمن القوي المصري.
وهنا نتوقف لنؤكد أننا نرفع تعظيم سلام لكل مصري يكون رأيه نابعاً من قناعاته بعيدا عن الارتباط بمخططات خارجية، أيا كانت خلافاته معنا أو أياً كان طيفه، أي مصري وخصوصاً من الطرفين المتصارعين علي موالاة واشنطن والخضوع لتعليماتها وهما عناصر الجماعات الليبرالية وغير الليبرالية «المتأمركة»، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، لأن الطرف المتأمرك ربما نجح في استقطاب كثيرين وتضليلهم بغير أن يعرفوا أنهم ضللوا.
ونحن نتساءل في ختام مقالنا، هل قامت ثورة 25يناير المجيدة من أجل إبعاد مبارك وشلة التوريث عن السلطة فقط مع بقاء كل سياسات النظام السابق كما هي، والجواب معروف ب ...." لا "... طبعا، لكون أن الثورة قامت لتجتث هذا النظام من جذوره، وتطهر مصر من كل العاملين علي إنتاجه سواء في المجلس العسكري أو خارجه، وبالتالي من أجل الحفاظ علي مصر لا أكثر، نحن نمد حبال الصبر للمجلس العسكري حتى يسلم السلطة ويرحل لا أكثر، وبعد رحيله في يونيو المقبل، سيكون لكل مقام مقال.