يمثل الإمام ابن حزم جانبا مهما ومؤثرا فى تاريخ الفكر الأندلسى خاصة ، والإسلامى والإنسانى بعامة ، إذ انه من الفقهاء القلائل المعدودين الذين شغلوا أنفسهم بمشروعات علمية وسياسية واقتصادية فى آن واحد ، للخروج بالمجتمع الذى يحيا فيه من عثرته ، كما أنه يعد من أوائل الأندلسيين الذين واجهوا تسلط وسيطرة المدرسة المالكية بالأندلس ، ودعا إلى تحرير الأنظمة السياسية والعلمية والقضائية من بعض تقاليدهم ، ومن ثم كانت دعوة ابن حزم هذه تمكينا لمذهب جديد فى الأندلس ، هوالمذهب الظاهرى ( الذى يعتمد على الاجتهاد والتجديد) ، والذى لقى من الرواج والانتشار فى عهد دولة الموحدين ، ما جعلهم يتخذونه مذهبا رسميا لهم . وقد تعددت الدراسات التى تناولت ابن حزم ، فمنها من تناول شخصيته وأدبه ، ومنها من تناول فقهه ومذهبه ، ومنها من تناول فكره التاريخي واللغوى والفلسفي ، والعقدى ، والجدلى . ويرجع اختيارد عبد الباقي السيد عبد الباقي لهذا الموضوع وهو (ابن حزم الظاهري وأثره فى المجتمع الأندلسى) إلى سببين :- الأول :- أن أحدا من الدارسين لم يتعرض له من قبل وإن كانت هناك محاولات لدراسة بعض القضايا التى أثر فيها ابن حزم فى الفكر الإسلامى والإنسانى بعامة كما سبق من الدراسات التى أجريت عنه . الثانى:- ارتباط المؤلف فكريا بابن حزم منذ أن كان في الفرقة الرابعة بالجامعية . فأرد أن يستغل هذا الارتباط فى دراسة عنه. وقد استخدم لفظ الظاهرى نسبة إلى مذهبه الذى اعتنقه بعد المذهبين المالكى والشافعى والذى يأخذ بظاهر اللفظ بعد انعدام وجود نصوص من القرآن والسنة ثم إجماع الصحابة واللغة العربية والعقل والنظر، وليس كما يتوهم البعض من أن الأخذ بظاهر النص يكون مباشرة دون فهم أو تدقيق . أما الأثر فقد استخدمته بمعنى الجهد حيث لم أجد أثرا إيجابيا لبعض آراء ابن حزم فاكتفيت بعرض رأيه الذى يأتى كمعارضة لقضية كانت فى عصره ويمثل بدوره فكرا جديدا لم يسبقه إليه أحد من الأندلسيين ، كما استخدم بمعنى اتباع الآخرين لآرائه وتأثرهم بها وكان هذا هو الغالب فى الدراسة التى امتدت فشملت أثره من القرن الخامس الهجرى/الحادى عشر الميلادى إلى الثامن الهجرى/الرابع عشر الميلادى ، وإن كان التركيز بصفة عامة على القرن الخامس الذى شهد انتعاش الفكر الظاهرى على يد ابن حزم ، والسادس والنصف الأول من القرن السابع اللذان شهدا ازدهارا للفكر الظاهرى بعامة والحزمى بخاصة على يد معظم حكام دولة الموحدين التى اتخذت من المذهب الظاهرى مذهبا رسميا لها وخاصة فى عهد المنصور الموحدى . وقد اعتمد في هذه الدراسة على قائمة متنوعة من المصادر والمراجع ما بين كتب النوازل والتاريخ والطبقات والفرق والجغرافيا واللغة وغيرها . ومن المشكلات والصعاب التى واجهت الباحث في هذه الدراسة اعتمادها بالدرجة الأولى على كتب الفقه والمذاهب والفرق الإسلامية ، ومن ثم كان على الباحث أن يحيط قدر الاستطاعة بهذه المذاهب إلى جانب المذهب الظاهرى ، ليتفهم أصول كل مذهب وأسباب الخلاف بينهم ، خاصة المالكى الذى بلغ الخلاف مداه بين ابن حزم وأتباعه ، ولعل الصعوبة تتضح أكثر فأكثر إذا علمنا أن هذا الاتجاه (وهو الاعتماد على كتب النوازل فى دراسة التاريخ والحضارة الإسلامية) ما زال من الأمور الفردية المستحدثة التى لم تترسخ بعد فى الجامعات المصرية ، وتوضع لها أسس وأصول فى دراستها . ويرتبط بهذه الصعوبة صعوبة أخرى وهى محاولة إنزال النازلة الفقهية التى يتعامل معها الباحث على الواقع التاريخى ، ولكى يتثنى للباحث فهم ذلك اضطر إلى الوقوف على تاريخ وحضارة الفترة التى أبرز فيها أثر ابن حزم قدر الاستطاعة ، ليكون قادرا على مناقشة النازلة والتعرف على أسبابها من خلال الواقع التاريخى ، ونتائجها ، هل بالسلب أم بالإيجاب ، خاصة وأن الفترة التاريخية التى عالج فيها الباحث أثر ابن حزم كانت فى معظمها خاضعة للمذهب المالكى ( أشد المذاهب الإسلامية خلافا مع ابن حزم فى الأندلس ) ، مما اضطر الباحث للنظر فى نوازل بعض فقهاء المالكية الذين كانوا على اتصال بابن حزم وكتبه ، من خلال المناظرة وغيرها ؛ للتعرف على أثر ابن حزم عليهم رغم المعارضة ، وهو أمر لا يخفى على أحد صعوبته . ومن أوجه الصعاب أن معظم علماء وفقهاء الفترة موضوع الدراسة كانوا مالكيين ، ومن ثم صار استجلاء أثر ابن حزم ليس بالأمر الهين . أما عن المنهج المتبع فى الدراسة فهو منهج استقرائى تحليلى يعمد إلى تحليل الحدث السياسى والنازلة الفقهية وردها إلى أصولها ودوافعها ، كما تمت الاستعانة بالمنهج النقدى فى مناقشة الروايات التاريخية المختلفة والآراء الفقهية ، لترجيح رواية على أخرى ، وتغليب رأى على آخر اعتمادا على الأصول والمصادر التى توضح ذلك . وقد قسم الدراسة إلى مقدمة وتمهيد وأربعة فصول ، تناول في المقدمة تعريف بأهم المصادر والمراجع ، وعرض للدراسات التى تناولت ابن حزم بالدراسة ، والمنهج الذى استخدم فيها ، ويحتوى التمهيد على عرض موجز لأوضاع المجتمع الأندلسى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والدينية فى عصر ابن حزم وتأثيرها على فكره ، أما الفصل الأول وعنوانه (حياة ابن حزم ومظانه ومذهبه الظاهرى) فقد تناول بالنقد والتحليل أصل ابن حزم ونشأته ، ثم مصادر ثقافته وتكوينه العلمى ، وتاريخ اعتناقه للمذهب الظاهرى وأسباب ذلك، وجهوده فى نشره ، ومصنفاته العلمية ودلالاتها على عقليته والجهد المبذول فيها . أما الفصل الثانى فعنوانه (أثر ابن حزم فى الأوضاع السياسية والاقتصادية) واختص بدراسة موقف ابن حزم من الخلافة الأندلسية وما آلت إليه من ضعف وجهوده الفكرية والعملية لإعادة مجدها وعزها، ونظرته للولايات الدينية التابعة للخلافة الأندلسية كالوزارة والولاية والقضاء والمشاورة ، والجديد الذى قدمه فى كل منها وأثره على المجتمع الأندلسى ، كما عالج علاقة ابن حزم بحكام عصره من الخلفاء وملوك الطوائف ومن سار فى فلكهم من العلماء ، وأخيرا أثر ابن حزم فى الأوضاع الاقتصادية وجهوده لتطويرها لا سيما الزراعة والتجارة . واختص الفصل الثالث وعنوانه (نظرة ابن حزم للحياة الاجتماعية والعلمية ) بدراسة موقف ابن حزم من الحياة الاجتماعية بالأندلس ، والعبيد والمرأة وما قدمه من آراء جديدة تجاه كل منهما ورد الفعل الأندلسى تجاه هذه الآراء . فضلا عن أثر ابن حزم فى النظام التعليمى الأندلسى ، وما أدخله فيه من جديد وما عارضه ، وموقف فقهاء المالكية من ذلك . واعتنى الفصل الرابع والأخير وعنوانه ( موقف ابن حزم من الفرق الإسلامية وأهل الذمة) بدراسة جهود ابن حزم فى مواجهة الفرق الإسلامية وأفكارها المخالفة لأهل السنة من خلال المناظرة لعلمائهم وتصنيف الكتب فى الرد عليهم ، وكذا الأمر بالنسبة لأهل الذمة من اليهود والنصارى ، وأثر مناظراته هذه على الأندلسيين من أهل السنة وعلى أتباع الفرق الإسلامية وأهل الذمة . واختتم د عبد الباقي هذه الدراسة بخاتمة تشتمل على النتائج التى توصل إليها ، ومن أهمها أن ابن حزم فارسى الاصل ، وأنه بدأ حياته العلمية وهو طفل صغير لم يتجاوز الخامسة أو السادسة ، وأنه بدأ حياته المذهبية بالمذهب المالكى ، ثم الشافعى ، ثم الظاهرى الذى ثبت عليه حتى وواتته المنية ، وأن مطالعات ابن حزم لم تكن قاصرة على العلوم الشرعية ، بل شملت كل العلوم التى ازدهرت على عصره عقلية كانت أم نقلية ، وأن ظاهريته كانت أحد الأساسيات لمشروع متكامل كان يهدف من ورائه إصلاح حال المجتمع الأندلسى المتردى ، وأن ولاء ابن حزم لبنى أمية كان ولاء محبة وتقدير للدور الذى لعبوه فى نشر الإسلام بالأندلس ، ولم يكن قائما على التعصب ، وأنه كان من أوائل العلماء الذين نبهوا على خطورة حركة الاسترداد المسيحى على الإسلام بالأندلس ، وبذل جهدا غير مسبوق فى تطوير ةتجديد النظام التعليمى بالأندلس ، وأنه كان أسبق من ابن خلدون فى التوصل إلى فلسفة التاريخ ، كما أنه كان من أوائل الأندلسيين الذين نجحوا فى تأصيل دراسة الفرق والديانات بالأندلس. وأخيرا أظهرت الدراسة حقائق هامة عن الحياة الاجتماعية بالأندلس من خلال كتب النوازل (الفقه) لم تتعرض لها المصادر التاريخية قط ، مثل طائفة عبدة الشيطان ، وزواج المتعة ، والخلع ، مما يوضح الأهمية الكبرى لكتب الفقه فى دراسة التاريخ الإسلامى .