اعرف لجنتك الانتخابية ومقر التصويت فى المرحلة الثانية من انتخابات النواب    كلودين عون: «المرأة اللبنانية ما زالت محرومة من حقوقها»    وزير الأوقاف يهنئ دار الإفتاء المصرية بمرور 130 عامًا على تأسيسها    مصر تستحق صوتك.. انزل شارك في انتخابات مجلس النواب من أجل مستقبل أفضل لبلدنا (فيديو)    جامعة حلوان تنظم ندوة تخطيط ووضع برامج العمل    ننشر سعر اليورو اليوم الأحد 23 نوفمبر 2025 فى منتصف التعاملات أمام الجنيه    سعر كيلو الفراخ بالقليوبية الأحد 23/ 11 /2025.. البيضاء ب60 جنيها    انطلاق أعمال الدورة الثالثة للملتقى السنوي لمراكز الفكر في الدول العربية    11 شرطا للحصول على قرض مشروع «البتلو» من وزارة الزراعة    الهلال الأحمر الفلسطيني يعلن إصابة شاب برصاص قوات الاحتلال في رام الله    وزير الخارجية يؤكد تطلع مصر إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع كندا    اتهامات لأمريكا بإدارة عمليات سرية وخفية بفنزويلا للإطاحة بمادورو    نتنياهو: نرد على خروقات وقف إطلاق النار بشكل مستقل دون الاعتماد على أحد    القاهرة الإخبارية: الاحتلال ينفذ عمليات نسف وتفجير بمدرعات مفخخة شرق غزة    إطلاق قافلة زاد العزة ال78 إلى غزة بحمولة 220 ألف سلة غذائية و104 ألف قطعة ملابس    طاقم حكام صومالى لإدارة مباراة باور ديناموز وبيراميدز فى زامبيا    حسين لبيب يناشد رئيس الجمهورية بحل أزمة أرض السادس من أكتوبر    مواجهات مثيرة.. مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة    جامعة بنها تحصد 18 ميدالية في بطولة الجامعات لذوي الاحتياجات بالإسكندرية    جوزيه جوميز: كنا نستحق نقطة واحدة على الأقل أمام الهلال    تجديد حبس المتهم بالتحرش بطالبة في التجمع    حالة الطقس.. الأرصاد تكشف خرائط الأمطار المتوقعة: رعدية ببعض المناطق    تسهيلات لكبار السن وذوي الهمم.. التضامن توضح ضوابط حج الجمعيات    «غرق في بنها».. العثور على جثة شاب أمام قناطر زفتي    قرار هام من المحكمة في واقعة التعدي على أطفال داخل مدرسة خاصة بالسلام    الداخلية تضبط مرتكبى واقعة سرقة تانك سولار بعد انتشار المقطع على السوشيال    كيف ترخص السيارة بديلة التوك توك؟.. الجيزة توضح الإجراءات والدعم المتاح    نقابة المهن التمثيلية تنعى الإعلامية ميرفت سلامة    مصطفى كامل: محدش عالج الموسيقيين من جيبه والنقابة كانت منهوبة    أسامة الأزهري: الإفتاء تستند لتاريخ عريق ممتد من زمن النبوة وتواصل دورها مرجعًا لمصر وسائر الأقطار    إقبال من الجمهور الإيطالي والأوروبي على زيارة متحف الأكاديمية المصرية بروما    "أنا متبرع دائم".. جامعة قناة السويس تنظم حملة التبرع بالدم للعام ال15    غدا.. تمريض جامعة القاهرة الأهلية تنظم ندوة توعوية بعنوان "السكري والصحة:معا لمجتمع جامعي أفضل"    أول لقاح لسرطان الرئة فى العالم يدخل مرحلة التجارب السريرية . اعرف التفاصيل    هيئة الاستثمار: طرح فرص استثمارية عالمية في مدينة الجلالة والترويج لها ضمن الجولات الخارجية    اليوم.. الزمالك يبدأ رحلة استعادة الهيبة الأفريقية أمام زيسكو الزامبى فى الكونفدرالية    اتحاد الأثريين العرب يهدي درع «الريادة» لحمدي السطوحي    كمال أبو رية يكشف حقيقة خلافه مع حمادة هلال.. ويعلق: "السوشيال ميديا بتكبر الموضوع"    اليوم بدء امتحانات شهر نوفمبر لسنوات النقل.. وتأجيلها في محافظات انتخابات المرحلة الثانية لمجلس النواب    موعد مباراة ريال مدريد أمام إلتشي في الدوري الإسباني.. والقنوات الناقلة    المشاط تلتقي مجتمع الأعمال والمؤسسات المالية اليابانية للترويج للإصلاحات الاقتصادية    وزارة الصحة: إصابات الأنفلونزا تمثل النسبة الأعلى من الإصابات هذا الموسم بواقع 66%    المخرجة المغربية مريم توزانى: «زنقة مالقا» تجربة شخصية بطلتها جدتى    «هنيدي والفخراني» الأبرز.. نجوم خارج منافسة رمضان 2026    "عيد الميلاد النووي".. حين قدّم الرئيس هديته إلى الوطن    «سويلم» يتابع منظومة الري والصرف بالفيوم.. ويوجه بإعداد خطة صيانة    الوجه الخفى للملكية    بدء فعاليات التدريب المشترك «ميدوزا- 14» بجمهورية مصر العربية    وزارة الصحة: معظم حالات البرد والأنفلونزا ناتجة عن عدوى فيروسية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 23-11-2025 في محافظة قنا    وزير الري: أي سدود إثيوبية جديدة بحوض النيل ستقابل بتصرف مختلف    مواقيت الصلاة فى أسيوط اليوم الاحد 23112025    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 23 نوفمبر    استطلاع: تراجع رضا الألمان عن أداء حكومتهم إلى أدنى مستوى    جولة نارية في الدوري الإيطالي.. عودة نابولي وتعثر يوفنتوس    مفتي الجمهورية: خدمة الحاج عبادة وتنافسا في الخير    دولة التلاوة.. أصوات من الجنة    خلاف حاد على الهواء بين ضيوف "خط أحمر" بسبب مشاركة المرأة في مصروف البيت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أصح الكتب بعد القرآن
نشر في محيط يوم 18 - 04 - 2015

لأن ذكره يتردد كثيرًا هذه الأيام بعدما أتى الذكر على تجديد الخطاب الدينى.. الإمام البخارى.. ذهبت لأجده فى تاريخه المجيد بالبصرة لا يستطيع الخروج من داره لتدوين الحديث الشريف ليبحث عنه أصحابه فيجدونه قابعاً فى الركن عريانا مقرورًا بعدما نفد كل ما عنده،
وأصبح على فيض الكريم، فجمعوا له الدراهم ليشتروا له ثوبا يستره فخرج معهم لاستكمال مهمته المقدسة ليقول: «خرجت إلى آدم بن أبى إياس فى عسقلان بفلسطين فتأخرت نفقتى حتى جعلت أقتات حشيش الأرض ولا أخبر أحدًا بذلك، فلما كان اليوم الثالث أتانى رجل لا أعرفه، فأعطانى صرّة فيها دنانير وقال لى: انفق على نفسك واستكمل مهمتك التى أنت أهل لها».
أبو عبدالله بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه ومعناها ابن الفلاح المولود عام 194ه بمدينة «بخارى» التى نسب إليها، وتقع الآن فى جمهورية أوزبكستان، وهى من الدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتى السابق، وقد اضطر فى آخر حياته إلى ترك موطنه بخارى والإقامة فى قرية «خرتنك» على بُعد 30 ميلا من سمرقند، وهى المنطقة الإسلامية الآسيوية التى أنبتت كبار العلماء فى الإسلام أمثال الفارابى، وابن سينا، والترمذى والنسفي، والنسائى، والجرجانى، والتفتازانى، ويوجد بها قبر قثم بن العباس بن عبدالمطلب الذى استُشهد فى فتح هذه البلاد عام 57ه وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول يقول عنه: «القثم بن العباس أشبه الناس بى خلقاً وخُلقا».. وإذا ما كان البعض يتميز بقوة الذاكرة فقد وهب الله أبا عبدالله البخارى سطوتها الحديدية التى جعلته يحفظ القرآن كله مع مئات من الأحاديث النبوية وهو ابن العاشرة ليقول: «ألهمت حفظ الحديث وأنا فى الكُتّاب، وبعد تخرجى فيه جعلت أختلف إلى العالِم «الداخلي» وغيره من حفاظ الحديث، فلما ظعنت أى وصلت فى السادسة عشرة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام أصحاب الرأى، ثم خرجت مع أمى وأخى إلى الحج، وعند بلوغى الثامنة عشرة كنت قد كتبت «قضايا الصحابة والتابعين» و«التاريخ فى المدينة»، وكنت أكتب عند قبر النبى فى الليالى المقمرة، وليس هناك اسم فى التاريخ الإسلامى إلا وله عندى قصة إلا أننى كرهت أن يطول الكتاب».. وهذا الإنتاج المبكر فى تلك السن الصغيرة ما يدل على الاستعداد القوى لدى البخارى الذى ما أن حصّل ما أمكنه تحصيله من الأحاديث ممن حوله من علماء وفقهاء ورواة حتى شدّ الرحال للبحث عن حفاظ الأحاديث فى البلاد المختلفة ليسمع منهم ويحفظ..
ويقول البخارى عن نفسه فى مقدمة ابن حجر: «دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصى كم دخلت الكوفة وبغداد مع المحدثين».. وقد قضى إمامنا فى رحلاته البحثية تلك 16 عاما يجمع فيها الأحاديث ويحفظها ويكتبها، وكانت ذاكرته الحديدية الفريدة تلتقط كل ما يسمعه وتخزنه وأبدًا لا تخونه.. قال عنه حاشد بن إسماعيل: «كان البخارى يذهب معنا إلى مشايخ البصرة وهو لم يزل فى العشرين فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام فلمناه بعد 16 يوماً على عدم إمساكه بالقلم للتدوين فقال: «قد أكثرتم فى لومى فاعرضوا أنتم ما كتبتم، فأخرجنا كتاباتنا فزادت على 15 ألف حديث، فقرأها أمامنا كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحتكم فيما كتبنا على حفظه».. ويروى ابن حجر عن قوة الحفظ لديه: «إن البخارى دخل بغداد فسمع عنه أصحاب الحديث فدبروا له طريقة يمتحنونه بها، وجاءوا بمئة حديث وقلبوها، فجعلوا سند حديث سندًا لحديث آخر وهكذا، ثم أعطوا كل عشرة أحاديث على هذه الصورة لعشرة رجال، وحضروا مجلس البخارى وبدأوا يسألونه عن هذه الأحاديث واحدا واحدا حتى انتهى المائة رجل من السرد، والبخارى يقول لكل واحد منهم: «لا أعرف هذا».. حتى ظنوا به العجز التام، وأنهم قد كشفوه لا محالة، ولكن ما أن انتهوا من استجوابه حتى انبرى للأول قائلا: «أما حديثك الذى قلت فيه كذا فصوابه كذا، وحديثك الثانى صوابه كذا، واستمر يصحح أسانيد الأحاديث التى امتحن فيها حتى أتى على آخرها.. مائة حديث كما حفظها، فلم يجدوا أمام هذا التمكن إلا الإذعان والتسليم للبخارى وحده بالفضل»..
يقول البخارى: صنعت كتابى «الجامع من ستمائة ألف حديث فى 16 سنة، وسمعت عن ألف وثمانين شخصا، ليس فيهم إلا صاحب حديث، وما أدخلت فى كتابى حديثاً حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين، وتيقنت من صحته».. ويسألون لماذا وصف «صحيح البخارى» بأنه أصح وأصدق الكتب بعد كتاب الله؟! فتأتى الإجابة بأنه كان شديد التحفظ والحيطة فى اختياره الحديث الصحيح فلا يجيزه إلا إذا كان الراوى قد أفاد بأنه قد التقى بمن يروى عنه، وسمع منه، ومن هنا كان لا يأخذ ممن هم من الطبقة الثالثة والرابعة والخامسة شيئا، بينما الإمام «مسلم» على سبيل المقارنة لا يقف عند الطبقة الأولى بل يعتبر أهل الطبقة الثانية أيضا ويروى عنهم، ولأن البخارى لم يأخذ فى صحيحه فى الأصول إلا الطبقة الأولى من الرواة أى الذين عاصروا شيخهم وسمعوا منه فقد استحوذ على ثقة العالم الإسلامى كله، وعندما عرض كتابه على ابن المدينى، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين استحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا فى أربعة أحاديث فقط.. وقد جمع البخارى فى كتابه بين الحديث وبين الأحكام والفقه، حيث قسَّمَه إلى عدة أبواب منها فى الجزء الأول 318 باباً مجتمعة تحت عناوين: كتاب الإيمان، وكتاب العلم، وكتاب الوضوء، وكتاب التيمم، وكتاب الصلاة، وفى الجزء الثانى 336 باباً تحت عناوين: كتاب الجمعة، وكتاب العيدين، وكتاب الوتر، وكتاب الاستسقاء، وكتاب الجنائز، وكتاب الزكاة..
وهو فى ذلك قد قسَّمَ كل كتاب إلى أبواب تبعاً للأحكام التى يستخرجها من الحديث الشريف، وهذا الأسلوب قد دفعه إلى تقسيم الحديث أحياناً إلى عدة أجزاء حسب الأحكام التى يفيدها كل جزء منه، ومن هنا كثرت الأحاديث المكررة عنده، كما كثر تجزئة الحديث الواحد، مما جعل من الصعب العثور على الحديث كاملا، على عكس ما جاء فى صحيح الإمام مسلم أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى النيسابورى المولود ب«نيسابور» عام 206ه الذى سرد الحديث بأكمله دون الإلزام بحكم فقهى، ومن هنا يتميز «صحيح مسلم» عن «صحيح البخارى» بما يقرب السُنّة النبوية إلى الناس كمادة خام يجتهدون فيها حسب مقدرتهم على الفقه والاجتهاد.. وكان مسلم شديد الحب للبخارى والتقدير له، وعندما جاء الأخير إلى نيسابور مسقط رأس مسلم لازمه وتتلمذ عليه عدة سنوات، وإن كان كلاهما رغم المكانة العظيمة لم يسلما من النقد فى عصرهما وبعدها خاصة بما أثارته تسمية كتابيهما ب«الصحيح» بما يوهم أن ما تركاه غير صحيح مع أنه قد يكون أوثق صحة من بعض ما ذكره البخارى ومسلم.. وقد شهد مطلع القرن الثالث الهجرى نشاطا علميا ملحوظا فيما يختص بالسنة النبوية، فأصحاب الكتب الخمسة أو الستة فى جمع الأحاديث، كانوا جميعا متعاصرين، كما يبدو من سنوات ميلادهم ورحيلهم فالبخارى ولد سنة 194ه ورحل فى 256ه وعاش حتى سن ال62عاما، ومسلم ولد فى 206ه وتوفى فى 261 وعاش 55 عاما، والنسائى ميلاده فى 215ه، ووفاته فى 303 عن عمر يناهز 88 عاما، وأبو داود ميلاده فى 202ه ورحيله فى 275ه وعاش 73 عاما، والترمذى مولده فى 209ه ووفاته فى 279 ه وعاش 70 عاما، وابن ماجه الذى ولد فى 209ه، ووفاته فى 273 وعاش 64عاما..
ويعد القرآن الكريم أصل الإسلام والدستور الذى يحوى الأصول والقواعد الأساسية للإسلام.. عقائده وعباداته وأخلاقه ومعاملاته وآدابه، أما السُنة فهى المصدر الثانى للإسلام بعد القرآن، وإنها البيان النظرى والتطبيق العملى للقرآن، وبقدر حرص رسولنا الكريم على تدوين القرآن وتوثيقه ومراجعته مع رسول السماء جبريل الأمين فإنه صلوات الله وسلامه عليه تشدد فى النهى عن توثيق السُنة حتى أن الصحابة ساروا فى هذا الاتجاه، فبعد أن جمع أبوبكر الصديق خمسمائة حديث عن الرسول بات ليلته مؤرقاً يتقلب فى فراشه، فلما أصبح قال لابنته عائشة: «أى بنية هلمى الأحاديث التى عندك» ثم جاء بنار فحرقها، وكاد عمر بن الخطاب أن يجمع سُنة رسول الله لكنه استخار الله شهرا ثم وقف على المنبر قائلا: «كنت أريد أن أكتب السنن، وإنى ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا»، والظاهر من رواية النهى عن كتابة السُنن أنه صلى الله عليه وسلم كان يخشى انشغال المسلمين عن القرآن، فهم حديثو عهد بالإسلام، ولكن هناك روايات مؤكدة بأن النبى سمح للبعض الآخر بكتابة السُنن، وكان يسعى بكل جهده إلى نشر الكتابة ومحو أمية أصحابه وأولاد المسلمين، وهناك صحف كانت تضم أحاديث الرسول فى صدر الإسلام مثل صحف عبدالله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبدالله الأنصارى.. واستمر الحال كذلك حتى جاء عمر بن عبدالعزيز ليغير ذلك النهج وبدأوا فى جمع أحاديث النبى الصحيحة، وقد شارك عمر بنفسه فى مناقشة بعض ما جمعوه كما روى أبو الزناد القرشي: «رأيت عمر بن عبدالعزيز بين الفقهاء يقول لهم فى بعض السنن هذه زيادة ليس العمل عليها، وبعدما جمعنا السنن كتبناها دفترا دفترا فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا».
وقد ارتبط وضع الأحاديث النبوية بعد الخلفاء الراشدين بالفتن والخلافات الدموية فيقول ابن تيمية فى ذلك: «والصحابة رضى الله عنهم كانوا أقل فتناً من سائر من بعدهم، فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والاختلاف، ولهذا لم يحدث فى خلافة عثمان بدعة ظاهرة، فلما قُتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان: بدعة الخوارج والمكفرين لعلىّ، وبدعة الرافضة المدّعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو إلاهيته، ثم لمّا كان آخر عصر الصحابة فى إمارة ابن الزبير وعبدالملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لمّا كان فى أول عصر التابعين فى أواخر الخلافة الأموية، حدثت بدعة الجهمية والمشبهة الممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك، وكذلك فتن السيف فإن الناس كانوا فى ولاية معاوية متفقين على العدو، فلما مات معاوية قتل الحسين وحوصر ابن الزبير بمكة ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة التى قُتل فيها أكثر من 300 صحابى ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط، ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله وجرت فتنة، ثم جاء مصعب بن الزبير فقتل المختار وجرت فتنة، ثم ذهب عبدالملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة، وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة، ثم لمّا تولى الحجاج العراق خرج عليه محمد بن الأشعث مع خلق عظيم من العراق وكانت فتنة كبيرة، وهذا كله بعد موت معاوية، ثم جرت فتنة ابن المهلب بخراسان وقُتل زيد بن علىّ بالكوفة، وقتل خلق كثير آخرون».. وقد ظهرت الأحاديث الموضوعة بكثرة فى العراق حيث قامت الفتن والحوادث، كما نشأت بذور الفرق الدينية فيه، وتوقف المحدثون عن الأخذ بالأحاديث التى تجىء من العراق، التى اشتهرت بالوضع حتى سميت «دار الضرب» تضرب فيها الأحاديث النبوية كما تضرب الدراهم، وكان الإمام مالك يقول: «نزَّلوا أحاديث أهل العراق منزلة أهل الكتاب: لا تصدقوهم ولا تكذبوهم».. وقال له عبدالله بن مهدى «يا أبا عبدالله سمعنا فى بلدكم المدينة أربعمائة حديث فى أربعين يوما، ونحن أى فى العراق فى يوم واحد نسمع هذا كله فقال له: «يا ابن عبدالرحمن من أين لنا دار الضرب التى عندكم؟ دار الضرب تضربون بالليل وتنفقون بالنهار»، وقال ابن شهاب: «يخرج الحديث من عندنا شبرا فيعود فى العراق ذراعا».. ولأن الدولة العباسية قامت على أكتاف الفرس من أهل خراسان، فإن الخلفاء العباسيين لم ينحازوا إلى العربية والعرب، وإنما انحازوا إلى الدين، فانتشرت «الشعوبية» التى تقول بتفضيل العجم على العرب، ووضعت الأحاديث فى هذا التفضيل إلى حد تفضيل أبى حنيفة لأنه من أصل فارسى على الإمام الشافعى لأنه من أصل عربى فقالوا حديثا مختلقا منسوباً إلى الرسول يقول: «يكون فى أمتى رجل يقال له محمد ابن إدريس الشافعى أضرّ على أمتى من إبليس، ويكون فى أمتى رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتى!!» وقد أُطلق لفظ «الزندقة» فى العصر العباسى على أتباع المجوسية الذين تظاهروا بالإسلام ليقول حماد ابن زياد: «وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث»..
ولم يتوقف وضع الأحاديث على أعداء الدين وأصحاب الأهواء فقط، وإنما كان الصالحون من المسلمين يضعون كذلك أحاديث عن رسول الله وهم يحسبون أنهم بعملهم يحسنون صنعا، وإذا ذكّرهم أحد بقوله صلوات الله عليه: «من كذب علىّ فليتبوأ مقعده من النار» قالوا: «نحن ما كذبنا عليه، إنما كذبنا له».. وكان لهذا العبث من آخر عندما بدأت مرحلة التحرى والالتزام والإسناد حتى جاء الخليفة الراشد عُمر بن عبدالعزيز ليجمع الأحاديث ليكون الشرارة الأولى التى ألهبت الهِمم فى شتى الأقطار الإسلامية لجمع الأحاديث الشريفة وقد كان رسول الله هو القرآن مفسرًا والإسلام مجسماً وقد أدركت هذا المعنى أم المؤمنين عائشة بقلبها وبصيرتها ومعايشتها لرسول الله حين سُئلت فقالت: «كان خلقه القرآن».. فالهداية النبوية من خلال السُنة المشرفة تسير معنا فى البيت والطريق والعمل، وفى العلاقة مع الله، ومع النفس، ومع الآخر، وهى توازن بين الروح والجسد، وبين العقل والقلب، وبين الدنيا والآخرة، وبين الحرية والمسئولية، وقد اهتم المسلمون بكل ما يصدر عن نبيهم فى جميع أحواله فسجلوه ونالت أحاديثه صلى الله عليه وسلم من البحث والتمحيص والتدقيق ما لم ينله علم آخر، ويكفى أن نعرف أن علماء الجرح والتعديل قد تناولوا حياة وظروف ومعيشة وأخلاق خمسمائة ألف رجل من رواة الأحاديث، ورفضوا الحديث الذى عُرف حامله أنه فى يوم من الأيام نادى على حصانه بالطعام كذبا واعتبروا الكذب على الداّبة علّه تفسد قول الراوى.. وإذا ما كان الإمام أحمد بن حنبل قد جمعَ 750 ألف حديث لم يصح منها إلا 30 ألفا، وجمع الإمام مالك مئة ألف حديث ليختار منها 500 فقط إلى جانب ما جمعه غيرهم واتفقوا على بعض منه فقد وُصف البخارى الذى جمع 600 ألف حديث واختار منها 2762 فى صحيحه بأنه أصح الكتب بعد القرآن.
ولا أستطيع الغوص فى صحيح البخارى دونما متابعة تأصيله لصحة الحديث النبوى فى مثل: حدثنا عبدالله بن يوسف قال أخبرنا مالِك بن أبى الزّناد عن الأعرج عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلّى أحدكم لنفسه فليطوِّل ما شاء».. وقوله: حدثنا محمد بن بشّار قال حدثنا ابن أبى عدىٍ عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنى لأدخل فى الصلاة فأريد إطالتها فاسمع بكاء الصبى فاتجوز مما أعلم من شدّة وجد أمه من بكائه».. وفى باب صلاة الفجر جاء: حدثنا عبدالله بن مسلمة عن مالك بن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وعن يسر بن سعيد وعن الأعرج يحدثونه عن أبى هريرة أن رسول الله قال: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»..
وفى مجال الدعوة لتجديد الخطاب الدينى لمواجهة إرهاب فتاوى الجهالة والعنف بجميع مسمياتها الإخوانية والداعشية والطالبانية والقاعدة والحوثية..الخ.. تبرز من جديد محاولة النيل من مصداقية المصدر الثانى للتشريع وهو السُنّة التى يحمل البخارى لواءها بادعاء أن رسول الله كان قد نهى عن كتابتها فى البداية، وابتعاد العهد بتوثيقها وتدوينها عن العصر الذى قيلت فيه، والقول بأن الوضّاعين الذين كذبوا على الرسول سبق التدوين، وأن ما وصلنا من الأحاديث ليس سوى شعاع فقط من نور النبوّة، أما أصول السنة فقد ضاعت فى زحمة الزمان والمكان، وبالتالى فإن ما يترتب عليها من فقه وشريعة وأحكام ومعرفة وحضارة وكنوز فكرية كلها لا يعتد بها، وأن طريقنا الوحيد للنهوض هو الأخذ بتشريعات الآخرين وتراثهم، وأن الداء قادم من السلف، ويظل هؤلاء على مدى القرون يقولون إن السُنة أهمِلت أكثر من قرنين بعد وفاة النبى إلى أن قام بجمعها البعض فى القرن الثالث الهجرى، وأصبح من العسير تمييز الحديث الصحيح من الموضوع.. وهذا الكلام قاله المستشرقون بل أضافوا إليه أن الأحاديث وضعها الفقهاء ليدعموا بها مذاهبهم، وادعى البعض أن السُنة مؤقتة بعصر النبى، وأن الفكر المعاصر قد تجاوزها، وأن علينا أن نطرح رؤيتنا لعالمنا بعيدا عن تأثير أحاديث لا تخص زماننا ولا مكاننا، وتجاهل هؤلاء عن جهل أوسوء نية أن السُنة النبوية تشكل هوية للأمة العربية، فلا يمكن أن نتخلى عن رصيدنا الفكرى القائم على مشرعى الغرب ومفكريه وبيننا وفى تراثنا قمم من ذوى الفكر أخذت عن كنوزهم دول العالم فاستنارت وأنارت، وقد جاءت السُنة موافقة للقرآن تفسر مبهمه، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتشرح أحكامه وأهدافه، كما جاءت بأحكام لم ينص عليها القرآن فكانت فى الواقع تطبيقاً عمليا لماجاء به القرآن، تطبيقا يتخذ مظاهر مختلفة، فحيناً يكون عملا صادرا عن الرسول، وحيناً آخر يكون قولا يقوله فى مناسبة، وحيناً ثالثا يكون تصرفا أو قولا من أصحابه فيرى المصطفى العمل أو يسمع القول ثم يقر هذا وذاك فلا يعترض عليه ولا ينكره، بل يسكت عنه أو يستحسنه فيكون هذا منه تقريرا..
والذى لا يختلف عليه اثنان هو القرآن وسُنة رسوله، وما عداهما ففيه متسع للاختلاف والاجتهاد، وقد أمرنا الأدب الإسلامى بألاّ نتحجر أو نتعصب لرأى معين، فالإمام الشافعى عندما صلّى فى مسجد الإمام أبى حنيفة صلاة الصبح، ترك القنوت مع أن القنوت وهو الدعاء فى الركعة الثانية سُنّة فى المذهب الشافعى وحين سئل عن ذلك قال: «لا أخالف أبا حنيفة وأنا فى حضرته وفى مسجده».. والإمام مالك ضرب مثلا رائعا عندما طلب منه الخليفة أن يقدم كتابا وسطيا يترك فيه شدائد عبدالله بن عمر، ويترك فيه رخص ابن عباس، ويتخلى عن شواذ ابن مسعود، ويجمع أواسط العلم ليتفق عليها، فراح الإمام مالك وشمرّ عن سواعد الجد وقدم كتابه النفيس «الموطأ» أى الذى وافق عليه كل الناس، فلما أعجب به الخليفة أراد أن يفرضه على الأمة، وأن يبعث به إلى كل الأقطار الإسلامية، ويُلزم الناس كلهم به، لكن الإمام مالك رفض قائلا بحسم: «يا أمير المؤمنين إن أصحاب الرسول تفرقوا فى الأمصار، وعند بعضهم ما ليس عند الآخرين، وفى كل بلد من السنن والأحكام والاجتهاد ما يختلف عن غيرهم، فدع الناس وما اختاروا مما يناسب مكانهم وزمانهم مادام ما ذهبوا إليه لم يصادم نصاً فى كتاب الله أو صحيح سُنة رسوله، يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة الله بهذه الأمة، فكل يرى ما صح عنده، وكل على هدى، وكل يريد وجه الله»..
و..نردد هنا قول الإمام مالك ألف مرة.. ونعيد ألف مرة ومرة أن الاختلاف فقط للعلماء.. للعلماء.. للعلماء.. وليس لغيرهم!!!
نقلا عن " الاهرام" المصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.