لا نبالغ أدنى مبالغة لو أكدنا أن النجاح المبهر للمؤتمر الاقتصادى في شرم الشيخ والذى نظم بقيادة رئيس الجمهورية «عبد الفتاح السيسى» يمثل العبور الثانى لمصر بعد حرب أكتوبر 1973. في هذه الحرب المجيدة استطاعت القوات المسلحة بمساندة جماهير الشعب المصرى -التى رفضت الهزيمة التى وقعت عام 1967- أن تدمر خط بارليف الحصين الذى أشاعت إسرائيل أنه لا يمكن تدميره ولو بقنبلة ذرية، وعبرت أخطر مانع مائى في التاريخ وهو قناة السويس، لكى تدمر القوات المسلحة الإسرائيلية وتفتح الطريق إلى النصر المؤزر. وقد أكدنا في الندوة الدولية التى نظمتها القوات المسلحة المصرية بعد حرب أكتوبر 1973 والتى شاركت في وضع خطتها بالتعاون مع «إدارة الشئون المعنوية» وذلك في البحث الذى ألقيته فيها أننا بعد الحرب في حاجة إلى تطبيق نموذج أكتوبر في مجال التنمية والتى هى أشبه بمعركة ضد التخلف، واقترحت اقتباس النموذج المعرفى لحرب أكتوبر، والذى يتمثل أساسا في التخطيط الاستراتيجى المتقن وفى إعداد الوسائل المناسبة، وفى التدريب الشاق، وفى تبنى روح الجسارة في اتخاذ القرارات مبنية على أساس التفكير العلمى، وذلك حتى تخوض مصر قيادة وشعبا حربها في مجال التنمية القومية المستدامة. قد يبدو غريبا لأول وهلة إقامة تشابه بين حرب عسكرية وخطة تنموية لمواجهة التخلف، ولكن لو عرفنا أن «ماكنمارا» وزير دفاع الولاياتالمتحدةالأمريكية الشهير سبق له في دراسة شهيرة أن عرّف الأمن القومى بأنه «التنمية» لزالت الغرابة عن تشبيهنا. لأن «ماكنمارا» أدرك بثاقب بصره أن الأمن القومى لا يتعلق كما يظن الكثيرون بالجوانب العسكرية فقط، ولكنه يرتبط أوثق ارتباط بتنمية المجتمع على أسس علمية حتى يكون مجتمعا حيا قادرا على النمو، وعلى الدفاع عن نفسه ضد مصادر التهديد الخارجية. لماذا قلنا أن المؤتمر الاقتصادى في شرم الشيخ هو العبور الثانى بعد حرب أكتوبر 1973؟ الإجابة أننا في الواقع بعد ثورة 25 يناير هزمنا كمجتمع -هزيمة منكرة حين استطاعت جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية في سياق انتخابات ديمقراطية شكلية أن تكتسح الانتخابات البرلمانية، وأن تنجح وفق إجراءات مشبوهة في أن تولى رئيس حزب «الحرية والعدالة» لكى يكون رئيسا للجمهورية. تولى الرئيس المعزول كان تعبيرا جهيرا عن هزيمة الثورة، وتأكد ذلك حين أسفر حكم الإخوان البغيض عن ديكتاتوريته الفجة بعد الإعلان الدستورى الشهير. وكما فعل الشعب المصرى بعد هزيمة يونيو 1967 في حشد قواه لشن حرب استنزاف أولا ضد القوات الإسرائيلية قبل الدخول في المعركة الفاصلة، فإن قوى المعارضة الحية دخلت في حرب استنزاف ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين توجت بالنصر في المعركة الفاصلة التى وقعت في 30 يونيو والتى تبعها على الفور إعلان «السيسى» خريطة الطريق. والواقع أن النظام السياسى الجديد بقيادة الرئيس «السيسى» الذى انتخب ديمقراطيا بمعدلات قياسية طبق بنجاح مبهر النموذج المعرفى لحرب أكتوبر وذلك في مجال التنمية. فقد شرع «السيسى» بعد أن كون المجالس الاستشارية لرئاسة الجمهورية والتى تضم عددا من أكبر القامات المصرية في البحث العلمى والاقتصاد والاجتماع والإدارة في التخطيط الاستراتيجى المتقن لفتح عصر التنمية القومية الرشيدة في مصر، وبدأ أولا بمشروع قناة السويس الجديدة والتى كانت في التخطيط لها وتنفيذها نموذجا فريدا في تلاحم الشعب مع القيادة، بعد أن تدفقت الجماهير لتمويل المشروع، ثم ما لبث أن خطط بإتقان شديد لعقد المؤتمر الاقتصادى الذى اقترحه ملك السعودية الراحل «عبد الله آل سعود». ويمكن القول إن النجاح المبهر للمؤتمر يعكس تخطيطا عبقريا لأنه بالإضافة إلى الملوك والرؤساء الذين حضروه- حضر المئات من مديرى الشركات الكبرى في العالم وعشرات من رجال الأعمال البارزين. وأنا أشير إلى النجاح المالى المبهر للمؤتمر على أساس المنح المالية الضخمة التى قدمتها كل من السعودية والإمارات والكويت وعمان وإلى عشرات الاتفاقيات التى وقعتها كبرى الشركات العالمية ولكننى أهم من ذلك أشير إلى النجاح السياسى الخارق للمؤتمر. لقد كان المؤتمر إعلانا عالميا واعترافا دوليا بشرعية 30 يونيو باعتبارها ثورة شعبية ضد ديكتاتورية الإخوان وليست انقلابا عسكريا كما زعمت بعض الأبواق العربية أو الدولية، ومن ناحية أخرى لو حللنا مضمون خطابات الملوك والرؤساء ووزراء الخارجية الأجانب لاكتشفنا اعترافهم بالقيمة المحورية لجمهورية مصر العربية وبمكانتها الرفيعة في محيطها العربى والأفريفى والآسيوى بل ومكانتها في العالم كله. ليس ذلك فقط بل لم يتوان عديد من الخطباء عن الإشادة بالقيادة الحكيمة للرئيس «عبد الفتاح السيسى» اعترافا بدوره الإقليمى والعالمى في مكافحة الإرهاب من ناحية، وحرصه على التخطيط التنموى الشامل لرفع مستوى نوعية الحياة في مصر، والقضاء على الفساد والبطالة والفقر، ودفع البلاد إلى الإمام حتى يكون اقتصادها في مقدمة الاقتصادات الواعدة. لقد أخرس نجاح المؤتمر ألسنة أنصار جماعة الإخوان المسلمين الذين مازالوا للأسف في مجال إنكار الواقع والحلم المجنون بعودة «مرسى» وحكم الإخوان مرة أخرى. ولكن لا ينبغى أن نلتفت لنقد مجموعة متنوعة من الكتاب والإعلاميين المتنطعين الذين زعموا أن نجاح المؤتمر وإقبال المستثمرين على مصر لا يعنى بالضرورة عودة ذلك بالفوائد والمكاسب على المواطنين المصريين. وإن دل ذلك النقد على شىء فإنما يدل على الجهل الفاضح بالاقتصاد، لأن الاستثمار الواسع المدى يعنى في المقام الأول تشغيل العاطلين وإعطاء فرص غير محددة للشباب من خلال توسيع وتنويع سوق العمل. بعبارة أخرى جهود التنمية المخططة حين تراعى اعتبارات العدالة الاجتماعية ستصب مما لا شك فيه في مجرى التقدم العام للمجتمع، وستكون هى الوسيلة المثلى للقضاء على الفقر والتخلف وتدنى نوعية الحياة. غير أن نجاح المؤتمر الاقتصادى ليس حلاّ سحريا لمشكلات الاقتصاد ولا لتدنى الأوضاع الاجتماعية. ذلك أن الحاجة ماسة إلى ابتكار صيغة جديدة للعمل الاجتماعى لحشد الطاقات الجماهيرية من خلال رفع مستوى التعليم، والارتفاع بمستوى تدريب القوى البشرية، ومساندة جميع المؤسسات لمشروع التنمية، وفى مقدمتها مؤسسات المجتمع المدنى التى يقع على كاهلها مسئولية تاريخية في رفع الوعى الاجتماعى للملايين من ناحية، وفى التنوير الثقافى من ناحية أخرى. بعبارة موجزة حانت اللحظة التاريخية للعمل الجاد، لأن القيادة مهما كانت مهاراتها أو نبل أهدافها أو رغبتها في تقدم الوطن لن تستطيع أن تنجز بغير مساندة شعبية كاملة. نقلا عن " الاهرام " المصرية