تتطلب مواجهة الإرهاب من أجل إلحاق هزيمة ساحقة به استراتيجية على مستوى هذا الهدف. ولا توجد استراتيجية من دون رؤية واضحة وجدول زمني محسوب، ومعايير لتقويم الأداء لكي يتسنى تصحيح أخطاء تحدث وسد ثغرات تظهر قبل أن تتفاقم تداعيات هذه وتلك. وإذا كانت الرؤية مشوشة، والتقديرات غير واقعية، وساحة المواجهة هلامية، والزمن مفتوح بلا تحديد دقيق أو حتى سقف عام اكتفاء بكلام يتكرر عن حرب طويلة، فهذا يعني غياب الاستراتيجية. وليس هناك ما هو أكثر صعوبة من خوض مواجهة قد تكون مصيرية بالنسبة إلى مستقبل المنطقة من دون استراتيجية توجهها، فقد يكون ممكناً خوض حرب ما، اعتماداً على خطة عسكرية لا ترقى إلى مستوى الاستراتيجية، ولكن هذا مقبول في حالة معركة صغيرة تهدف إلى تحقيق نتائج محدودة في إطار صراع عابر هنا أو هناك. أما حين يحدث ذلك في حرب ممتدة وصعبة ضد الإرهاب، فيصعب توقع نتائج حاسمة، وربما يكون هذا هو مصدر المشكلة، فالمؤكد أن أية معركة ضد الإرهاب ستُلحق به خسائر. وليس محتملاً بأي حال أن ينتصر الإرهاب مهما بلغت الأخطاء والثغرات المترتبة على غياب استراتيجية بالمعنى الذي سبق توضيحه، لكن الفرق كبير بين مواجهة تعتمد على استراتيجية متكاملة وأخرى تستند على خطط عسكرية متغيرة حسب الظروف. فالحرب الشاملة القائمة على استراتيجية متكاملة يمكن أن تُلحق بالإرهاب هزيمة حاسمة تضعضعه حتى إذا بقيت له ذيول في أماكن مختلفة، لكن المعركة التي تفتقد مثل هذه الاستراتيجية لا يمكن أن تحقق أكثر من قتل أعداد من الإرهابيين، كثروا أو قلوا، وتدمير مواقع يتحصنون فيها، وطردهم من بعض المناطق التي سيطروا عليها. فشَّتان، إذن، بين مواجهة الإرهاب بهدف إلحاق هزيمة حاسمة بمقدّراته، وملاحقة الإرهابيين، سعياً إلى قتل أكبر عدد ممكن منهم، وطردهم من بعض المناطق. والمسافة شاسعة بين هزيمة الإرهاب وقتل إرهابيين، لأن البيئة المجتمعية المنتجة للتعصب والتطرف تفرز من يمكن أن يعوضوا القتلى. وتزداد أهمية العمل من أجل تغيير هذه البيئة حين يكون أثرها في تنامي الإرهاب قوياً، وعندما تبدو معالجة اختلالاتها ممكنة في ضوء تجربة قريبة وليست بعيدة. وينطبق ذلك على المحافظات السنية العراقية، التي ساهمت سياسات معقولة وإن لم تكن رشيدة تماماً، في جعلها حائط صد ضد الإرهاب في منتصف العقد الماضي (2004 –2006)، قبل أن تتحول إلى بيئة مواتية له في السنوات الأخيرة بفعل سياسات طائفية متطرفة دفعت قطاعات من عشائرها وسياسييها إلى اعتبار حكومة بغداد المحكومة من طهران العدو الرئيسي لهم، وليس هذا إلا مثالاً واحداً للفرق الشاسع بين مواجهة الإرهاب وملاحقة إرهابيين. فثمة تحركات بطيئة تحدث على استحياء لتصحيح سياسات الحكومة العراقية السابقة، وهناك استهانة بالمقاومة التي تواجه هذه المحاولات، مقابل غارات جوية متسارعة ومتواصلة. وهناك اهتمام هائل ببلدة كوباني (عين العرب)، وكأن معركتها هي الحاسمة ضد الإرهاب، مقابل إهمال مواقع أخرى في كل من العراق وسوريا ينطوي بعضها على أهمية أكبر من الناحية الاستراتيجية، ويعني ذلك أن المواجهة الحاسمة للإرهاب لم تبدأ بعد. فما يحدث حتى الآن هو اصطياد إرهابيين وملاحقتهم من مكان لآخر عبر ضربات تعتمد بالأساس على غارات جوية متنقلة يصعب على أكثر الخبراء العسكريين احترافاً تقويمها موضوعياً بدون أن تكون أمامه استراتيجية تمثل المرجعية التي يستند عليها في هذا التقويم، ولا يخفى أن تعقب إرهابيين أسهل بكثير من دحر الإرهاب نفسه، لكن الاستسهال لا يفيد في هذا المجال، مثلما لا يجدي في غيره. واختيار هذا السهل، أو الأسهل يحقق نتائج، لكنها جزئية ووقتية، بينما يظل الإرهاب مستمراً ما بقيت هناك بيئة تنتج تعصباً وتطرفاً يمثلان «خزاناً بشرياً» له. وهذا ما حدث منذ عام 2001 ،عندما أعلنت الولاياتالمتحدة حربها الأولى على الإرهاب، وقد لا يكون هناك مؤشر على افتقاد تلك الحرب استراتيجية متكاملة أقوى من أنه لم يمض عامان على إعلان الرئيس الأميركي أوباما دحر الإرهاب- عندما قتلت قواته بن لادن في مايو 2011- حتى تبين أن هذا الإرهاب صار أوسع نطاقاً، وأكثر تطرفاً مما كان، فليتنا نستوعب هذا الدرس الآن وليس غداً. نقلا عن "الاتحاد " الاماراتية