يجب علينا لكى نفهم قضية التراث الإسلامى ونستخلص منه المناهج من أجل البناء عليها والاستفادة منها أن نقوم أولا برحلة فى عقل العالِم المسلم الذى فهم دينه، وارتكز عليه كقاعدة جعلته ينطلق ليملأ مشارق الأرض ومغاربها علمًا وحضارة قفزت بالبشرية أعوامًا إلى الأمام، وعلينا أن نعرف الكيفية التى كان يفكر بها ذلك العالِم المسلم؟ كيف كان يرى العالم؟ ما الذى دفعه للبحث والتنقيب وراء علوم زمانه؟ وما الذى زرع فيه شغفه بالعلم؟ ومن خلال ذلك نخرج بالعديد من المناهج البحثية والمفاهيم والخلاصات التى توجد بين صفحات التراث الإسلامى الذى استقى علمه من النص القرآني، بهدف تعريف الباحثين والطلاب فى الحقول العلمية غير الشرعية بمداخل العلوم الشرعية ومفاتيحها المعرفية والمنهجية. إن الاهتمام بمعرفة أو استكشاف التراث الإسلامى يجعلنا نضع أسسًا معرفية ومناهج علمية للعلماء فى جميع التخصصات لكى يبنوا عليها رؤاهم العلمية، بالإضافة إلى بناء قاعدة توضح المرجعية التى يستند إليها العلماء المسلمون فى العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية وغيرها عند الحكم على الأشياء وتصورها، وكيف نوثقها، وهل هناك ثوابت ومتغيرات، وما مدى القطعى والظني، وكيف يمكن أن نلحق الواقع بالنص؟ ومحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها. إن فكرة فهم التراث الإسلامى لها أهمية فى إدراك علماء المسلمين فى شتى العلوم والمجالات للنموذج المعرفى الإسلامي، وأعتقد أن النهضة فى عصرنا تحتاج إلى إدراك النموذج المعرفى فى العلوم الإنسانية فضلاً عن العلوم الشرعية. لا بد أن ندرك الهدف من فهم التراث والذى يحتم علينا «أن نمتلك الأداة الضرورية اللازمة لفهم آليات التعامل مع الموروث الإسلامي»، ومعرفة ما هو الموروث الإسلامي؟ والدافع وراء تميز علماء المسلمين فى بعض العلوم والفنون، وعلى سبيل المثال علم الفلك الذى كان نتاج رغبتهم فى ضبط مواقيت الصلاة واتجاه القبلة ومواقيت الصيام والحج وغيره. ثم لا بد من الوقوف على أهمية اللغة العربية والفلسفة اللغوية الكامنة وراءها والتى كان لها من الأثر فى فهم التراث، وكيف اهتم المسلمون القدماء بقضية دلالات الألفاظ، كل هذا مهم جدًّا لأجل فهم التراث والعقلية التراثية. التراث الإسلامى فى مجمله هو المنتج البشرى المنقول الشفوى والكتابى للأمة الإسلامية، وهذا التراث يتطور من وقت لآخر بما يتوافق ومتطلبات العصر، ومن أجل أن نوفى هذه المتطلبات تعين علينا فهم هذا التراث، واستنباط النظريات والمناهج العلمية منه، وتبرز هنا أهمية فهمه، وهذا الفهم يحتم علينا أن نمتلك الأداة الضرورية اللازمة لفهم آليات التعامل معه. فالموروث الإسلامى إجمالاً عبارة عن مكونين؛ نتاج فكر، وواقع تاريخي، والنتاج الفكرى محل عمله يكون فى القرآن والسنة مصدرى المعرفة الأساسيين عند المسلمين باعتبارهما وحيا، والنتاج الفكرى له ثمرة وهى ما يخرجه البشر بتفاعلهم مع هذين المصدرين من رؤى وأفكار وعلوم ومناهج وأحكام وممارسات؛ لأن النص (القرآن والسنة) محور الحضارة الإسلامية التى بنيت عليه، فعلم الفقه مثلاً هو من القرآن إجمالاً والقليل منه من القرآن مباشرة، إلا أننا نجد أنه يحتوى على مئات الآلاف من المسائل الفقهية بينما آيات القرآن الكريم أقل من ذلك بكثير من حيث العدد والحجم، وعليه تكون الانطلاقة من القرآن الكريم. والواقع التاريخي، أو الواقع هو ما يقابل النتاج الفكرى وقد كان العالِم التراثى حريصًا على أن يبقى تعامله العلمى مع هذه العوالم تحت مظلة النص وسلطانه وعلى اتصال وثيق به؛ بما يؤكد حقيقة أن «النص» كان محورًا للحضارة، بمعنى أننى حينما أذهب وأتعامل مع الواقع لا بد أن أمام عينى نظارة النص، والمثال أن المسلم الفلكى القديم طوع علوم الفلك لخدمة دينه وتخدمه هو أيضًا فجاء علم الفلك الذى كان نتاج رغبتهم فى ضبط مواقيت الصلاة وغيرها، وهذا بالنسبة لتفاعله مع عالم الأشياء الذى هو جزء من الواقع، أما بالنسبة لتعامل النص مع عالم الأفكار، نجد أنه كان محركًا للآداب والعلوم ومنشئًا لها. وخلاصة هذا أن هذا الموروث إما أنه نتاج بشرى أو مصادر أصلية، والذى ينبغى علينا هو أن نفهم هذا التراث الإسلامى فهمًا جيدًا، لكى نستخلص «المناهج» أو ما يسمى المناهجية وهى علم توليد المناهج، وأيضًا نستخلص منه طرائق التفكير، كيف كانوا يُعملون عقولهم دون الالتفات إلى الموضوعات أو التفصيلات التى كانوا يفكرون فيها. والإجابة عن سؤال يراود ذهن الكثير وهو: لماذا اختفت هذه العقلية التراثية؟ والتى تتمثل فى أن المشكلة أن الإنسان المالك للنموذج المعرفى والمرجعية لم يعد يتعرض للمشكلات الواقعية وجذورها وما ورائياتها، حدث هذا فى مصر منذ عصر محمد على ومشروعه حين فصل بين نوعى التعليم: مدنى وديني، ومنذ أن قيل لرجل العلم الشرعي: إنك رجل دين لا رجل دنيا، ومن ثم يجب أن تبقى معزولاً عن مثل هذه الأشياء التى تجرى فى الواقع، اليوم يقال له: لماذا لا تجتهد فى إعطاء الحكم الإسلامي، والحل الإسلامى لهذه المشكلات، وهو أين هو منها؟ وبالمثل يُفعل مع دارس العلوم الاجتماعية الحديثة، حين يُطالب بأن يكون إسلاميًّا وهو منعزل تمامًا عن تعلم أى شيء من هذا. نقلا عن " الاهرام" المصرية